مقالات وآراء

الخذلان… لحظة تكشف وجوه الحقيقة

بقلم. :أسماء قطب 

 

 

لا يأتي الخذلان عادةً في صورة حدث عابر، بل كصوت داخلي يهزّ ثبات الإنسان ويترك أثرًا لا يُمحى بسهولة. إنه تجربة شديدة الخصوصية، تختبر صبرنا وتعيد تشكيل رؤيتنا لمن حولنا. فالخذلان لا يكون مؤلمًا لأنه قاسٍ في حد ذاته، بل لأنه يأتينا من حيث لا نتوقع، من أشخاص منحناهم الثقة وفتحنا لهم أبواب القلوب بلا تردد.

وحين نتساءل لماذا يوجعنا الخذلان بهذا القدر، نجد أن الإجابة تكمن في القرب. فالصديق الذي رفعناه فوق الشك، والحبيب الذي صدّقنا وعوده، والقريب الذي ظنناه سندًا لا يتزعزع، هم وحدهم القادرون على إحداث هذا الشرخ حين يختارون الغياب. أما خذلان الغرباء فلا يترك في النفس سوى غبار عابر، لأنهم لم يسكنوا يومًا أعماق القلب.

ورغم مرارته، يملك الخذلان وجهًا آخر أكثر عمقًا. فهو ليس مجرد ألم، بل مرآة كاشفة تفضح حقيقة البشر. في اللحظات الصعبة تنسحب الأقنعة، وتظهر المعادن الحقيقية للناس. من يقف، ومن يبتعد، ومن يكتفي بالمشاهدة. وهنا يتضح الطريق، ويتبيّن من يستحق البقاء ومن يليق به الرحيل.

ومع ذلك، لا ينبغي النظر إلى الخذلان باعتباره النهاية. بل يمكن أن يكون بداية لمرحلة أكثر وعيًا. فالتجارب القاسية تمنحنا القدرة على إعادة ترتيب أولوياتنا، وفهم حدود علاقاتنا، وصون كرامتنا من التورط في عطاء لا يقدَّر. إنها فرصة لنفهم أن القلب لا ينبغي أن يتعلق إلا بالله، وأن البشر مهما اقتربوا يظلون قابلين للتغيّر.

ومن بين الدروس التي يمنحها الخذلان ما يرسّخ قيمة الحدود، ويؤكد أن العطاء الحقيقي هو ما يُمنح بلا انتظار مقابل، وأن الندم لا معنى له طالما كان الإنسان أصيلًا في مشاعره. فالخذلان لا ينتقص من قيمتنا، بل يكشف من لم يحافظ على مكانته في حياتنا.

أما تحويل هذا الشعور إلى قوة، فهو الخطوة الأكثر نضجًا. فبدلًا من الانكسار، يمكن للإنسان أن يجعل من خيبته رصيدًا من الحكمة، يبني عليه صلابته، ويتسلح به في اختياراته المقبلة. فالخذلان ليس خسارة، بل حماية مبكرة من علاقات كان من الممكن أن تجرّ جروحًا أعمق.

وفي النهاية، يبقى الخذلان تجربة موجعة لكنها مُنيرة. قد تغيّر نظرتنا للعالم، لكنّها بالتأكيد تجعلنا أكثر وعيًا وأشد صلابة، وتذكّرنا بأن ما يُسقط الآخرين لا يُسقطنا، وأن القلب الغالي لا يليق به إلا من يُثبت قيمته بالفعل قبل القول.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock