مقالات وآراء

طارق غريب يكتب : ادفع لكي تحصل على البركة

طارق غريب

في لحظة معينة من تاريخ الإنسان ، يحدث انقلاب صامت لا يُعلن عنه إلا بأثر رجعي : يصبح كل شيء قابلاً للبيع. ليس الأشياء فحسب ، بل المبادئ والكرامة والصدق والذاكرة الجماعية واللغة نفسها . عندما يُهدر الإنسان كل قواعده الأخلاقية ، وكل أسس التأثير النفسي الشريف ، وكل آليات الإقناع المبنية على المنطق أو العاطفة النبيلة ، مقابل حفنة من المال ، فإنه لا يبيع سلعة خارجية ، بل يبيع الشرط الوحيد الذي كان يجعل منه كائناً إنسانياً متميزاً : القدرة على أن يقول ” لا ” حتى لو كلفه ذلك كل شيء.
هذا الانهيار ليس حادثاً عرضياً ، بل هو النتيجة الحتمية لتحول المال من وسيلة إلى غاية مطلقة. عندما يصبح المال هو المقياس الوحيد للقيمة ، تنهار كل التسلسلات الهرمية الأخرى . لم يعد هناك ” صالح ” و ” طالح ” ، ولا ” حق ” و” باطل ” ، ولا حتى ” جميل ” و
” قبيح ” هناك فقط ” مربح ” و” غير مربح” . في هذه اللحظة يتحول الإنسان من كائن أخلاقي إلى آلة حسابية بيولوجية ، ويصبح الضمير تكلفة إضافية يمكن الاستغناء عنها لخفض السعر النهائي.
الأخطر من بيع الجسد أو الوقت هو بيع آليات الإقناع نفسها. عندما يُستخدم علم النفس – الذي كان في الأصل محاولة لفهم النفس الإنسانية – كسلاح للتلاعب الجماعي مقابل عمولة ، يحدث شيء أعمق من الخداع العادي : يُفرّغ الإنسان من آخر ملاذ له ، ألا وهو الثقة في أن هناك من يخاطبه ككائن عاقل حر . الإعلام و الإعلانات الموجهة بدقة متناهية ، الخوارزميات التي تعرف رغباتك قبل أن تعرفها أنت ، اللافتات التي تبكي نيابة عن أطفال لم يولدوا بعد . كلها تُمارس فناً واحداً : تحويل الخوف والرجاء والحنين والغضب إلى نقرات ، ثم إلى أرقام في حساب بنكي.
هنا نصل إلى التناقض الأعظم : الإنسان الذي يبيع كل شيء ليربح كل شيء ، يخسر في النهاية الشيء الوحيد الذي لا يمكن تعويضه : المعنى. المال يشتري الراحة ، لكنه لا يشتري الاطمئنان. يشتري المتعة ، لكنه لا يشتري البهجة. يشتري السلطة ، لكنه لا يشتري الاحترام. وفي النهاية ، عندما ينظر الإنسان في المرآة ، لا يرى وجهه ، بل يرى فاتورة مدفوعة الأجر.
إن أكثر الأمثلة إيلاماً ليست في الفساد الكبير ، بل في الفساد الصغير اليومي. الطبيب الذي يصف دواء أغلى لأن الشركة تدفع له عمولة أكبر. الصحفي الذي يقتل قصة حقيقية لأن الجهة المُعلنة ستسحب إعلاناتها. المعلم الذي يُعطي درجات عالية لابن الثري كي يبقى التمويل مستمراً. المؤثر الذي يبكي أمام الكاميرا لأن ” الدموع تزيد التفاعل بنسبة 47% “. كل واحد من هؤلاء لا يسرق مالاً فقط ، بل يسرق جزءاً من إنسانية الآخرين ، وجزءاً من إنسانيته هو.
في الفلسفة اليونانية القديمة ، كان أرسطو يقول إن :
” الفضيلة هي الوسط بين الإفراط والتفريط ” ، لكن ما العمل عندما يصبح الإفراط نفسه هو الفضيلة الوحيدة المطلوبة في السوق ؟ عندما يُكافأ الذي يتجاوز كل الحدود ، ويُعاقب الذي يحترمها ؟ هنا نحن الآن أمام ما يمكن تسميته ” أخلاقيات اللاعودة ” ، بمجرد أن تبيع شيئاً لا يمكن استرجاعه (الكرامة ، الصدق ، الثقة بالنفس) ، لا توجد طريقة لاستعادته مهما دفعت.

ربما تكون المأساة الكبرى أن هذا الانهيار لا يحدث بعنف ، بل بهدوء وبابتسامة. لا أحد يُجبر بالسلاح ، بل يُغرى بالراحة . لا أحد يُهدد بالموت ، بل يُعد بالحياة الأفضل . وفي كل مرة يقول فيها إنسان ” فقط هذه المرة” ، أو “الجميع يفعلها” ، أو ” أنا مضطر ” ، فإنه يساهم في بناء عالم لا يعود فيه أحد مضطراً ، لأن الجميع قد باع بالفعل.
في النهاية، السؤال الحقيقي ليس ” كم تبيع ؟ ” ، بل ” ما الذي تبقى منك بعد أن تبيع كل شيء؟ ” . والجواب المرعب هو أن شيئاً لا يبقى. يبقى فقط جسد يتحرك ، وعقل يحسب ، وقلب توقف عن الشعور بالخزي لأن الخزي نفسه أصبح سلعة غير مربحة.
عندما نصل إلى هذه النقطة ، لا يكون الحل في العودة إلى الوراء – فالطريق قد أُغلق – بل في رفض اللعبة من الأساس. ليس بالزهد الرخيص ، بل بالوعي العنيف : أن ندرك أن هناك أشياء لا تُقاس بالمال لأنها هي التي تجعل المال ذا قيمة أصلاً. أن نرفض أن نكون سلعة ، حتى لو كان الثمن هو أن نعيش كل السلع .
في عالم باع كل شيء ، الثورة الحقيقية ليست في امتلاك المزيد ، بل في القدرة على أن تقول : ” هذا الجزء مني ليس للبيع ” .
حتى لو كان الثمن هو كل شيء آخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock