مقالات وآراء

أنا والعرّاب

جريدة الصوت

 

بقلم د – سماح عزازي

كيف يمكن لكاتب لم نلتقِه قط أن يُغيّر ملامح جيل بأكمله؟ كيف لصفحات ورقية أن تصبح حضنًا وسندًا في عالمٍ يتداعى؟
هنا، حكاية شخصية مع العرّاب الذي لم يكن يومًا عابرًا.

في حياة كل قارئٍ حقيقيٍّ لحظة تحوُّل، لحظةٌ ينفصل فيها عن العالم الخارجي، ليجد نفسه يعبر بوابة سحرية إلى عالم آخر، أكثر صدقًا، وأشد قُربًا من ذاته. لحظة يصادف فيها كاتبًا لا يُشبه أحدًا، يُمسك بيده وسط العتمة، يهمس له: “أنا هنا… مررت بكل ما تمر به، وسأقصّ عليك الحكاية”.
وأنا، كالكثيرين من أبناء جيلي، كان لقائي مع العرّاب هو تلك اللحظة الفارقة. لم يكن مجرد كاتب عابر في رفّ مكتبة. كان صديقًا غير مرئي، طبيبًا للروح، ومُرشدًا يُمسك بالبوصلة حين تتوه الاتجاهات.

كنا نقرأ له ونحن نظن أننا نقرأ للترفيه، فإذا به يغرس فينا شتلات الأسئلة، والتأمل، والتمرّد، ويعلّمنا كيف نفكر دون وصاية، كيف نخاف دون ضعف، وكيف نحزن دون أن ننكسر.
في زمنٍ كانت فيه الكتب إما هروبًا من الواقع، أو تجميلًا زائفًا له، كان هو من القلائل الذين واجهوا الواقع كما هو: قبيحًا، موجعًا، لكنها مواجهة لا تُحبط، بل تضيء ولو شمعة.

أحمد خالد توفيق… الاسم الذي تحول من توقيع أسفل الصفحة إلى نُقطة نور في الذاكرة الجمعية لجيلٍ بأكمله.
هو الذي نجا بالكلمة حين خذلنا الواقع، وأبقانا أحياء حين همّت أرواحنا بالذبول.
هو الذي كتب وكأننا في قلبه، وكأننا أبناء أفكاره، لا قرّاءه فقط.
هو من جعل الكتابة فعلَ إنقاذٍ، لا تسلية.

فماذا أفعل أنا اليوم، بعد كل هذه السنوات، سوى أن أكتب لأردّ له شيئًا من الجميل؟
أكتب عنه… لأستعيد نفسي.

في زوايا الذاكرة، حيث تختبئ التفاصيل الصغيرة التي شكّلت أرواحنا، ثمة رجل ظلّ صوته يرافقنا لسنوات، لا يطلّ من الشاشات، ولا يتزاحم في الندوات، بل تسلل إلى وعينا بهدوء، كما تفعل الأرواح القديمة، كمن يعرف تمامًا طريقه إلى القلب دون استئذان. ذلك هو الدكتور أحمد خالد توفيق… العرّاب.

لم ألتقه يومًا. لم أمدّ له يدًا، ولم أصافحه. لكنني كنت كلما فتحت كتابًا له، شعرت أنني أجلس إلى جواره. كأنّه يكلمني أنا وحدي، يكتب لي أنا فقط. لم يكن يكتب كما يكتب الكُتّاب، بل كان يهمس كما يفعل الأصدقاء. وبينما كانت الحياة تُفرغ جعبتها من الألم والخذلان، كان هو هناك… ثابتًا، حنونًا، يُربّت على أكتافنا بكلماته، يُشعل في العتمة شمعة، ويربت على هشاشتنا بحنوّ أبٍ خائف على أبنائه من قسوة العالم.

ذلك الرجل الذي قرأ لنا أفكارنا
أحمد خالد توفيق لم يكن مجرد كاتب، كان ظاهرة. ظاهرة إنسانية وأدبية وثقافية. كتب الرعب، والفانتازيا، والخيال العلمي، والفلسفة، والاجتماع، والسياسة، والموت… نعم، كان الموت رفيقه الأبدي، يناجيه، يفسّره، يصادقه أحيانًا، ويخافه أحيانًا أخرى. كان الموت في كتاباته حقيقيًا، مؤلمًا، كئيبًا، ولكنه أيضًا كان باعثًا على التفكير، على التقدير، على أن نحيا كما يليق بالحياة أن تُعاش.

كم مرّة قرأتُ “يوتوبيا” وشعرتُ أن الكاتب يسبق الزمن بعقود؟ كم مرّة تهتُ في “ممر الفئران” كأنني أعيش فيه، لا أقرأه؟ وكم مرّة بكيت وأنا أُقلب صفحات “قصاصات قابلة للحرق” لأنني رأيت فيها وجهي، وجهي الحقيقي، لا ذلك الذي أقدّمه للعالم؟ كان أحمد خالد توفيق مرآتنا، بكل صدقها، وبشاعتها، وجمالها الخفي.

العرّاب… حين يصبح الكاتب أبًا روحيًا
كنا في مراهقتنا نبحث عن أبٍ يفهمنا، عن صوت لا يعلو علينا، بل يهمس فينا. لم نجد في عالمنا الضاجّ بالصراخ والضجيج من يُصغي، فوجدنا العرّاب. لم يكن يفرض، بل يقترح. لم يكن يعظ، بل يحكي. لم يكن يزيف الواقع، بل يعرضه بكل مرارته، ويضع يدنا في يد الألم دون أن يتركنا وحدنا.
هو من علّمنا أن “الناس تحب سماع الأكاذيب المريحة أكثر من الحقائق المؤلمة”. وهو من قال “أنا لا أخاف الموت، لكنني أخاف أن أموت قبل أن أُنجز شيئًا له قيمة”. وهو من علّمنا أن تكون إنسانًا في عالم لا إنسانية فيه هو أعظم انتصار.

غيابه الذي لم يغب
حين مات أحمد خالد توفيق،في (2 أبريل 2018) لم يمت كغيره. لم يكن خبر رحيله مجرّد “وفاة كاتب”. كان زلزالًا. نُشر الخبر على الصفحات كأن الدنيا كلها تُبلغ عن وفاة والدها. آلاف من شباب هذا الجيل، من مختلف الطبقات، كتبوا بحزن كأن قلوبهم تُسحب. رأيتُ من يبكي في صمت، ومن يكتب كلمات وداع عاجزة، ومن يذهب إلى قبره وكأنه يزور من ربّاه.

في لحظة رحيله، شعرنا جميعًا باليُتم. لم يمت الكاتب فقط… مات الذي أخفى في كتبه وجعنا، مات الذي قرأ أفكارنا بصوته المرتبك، مات الذي لم نكن نعرف قدره إلا حين صمت قلمه.

أنا وتلك الحروف التي أنقذتني
أقولها دون مبالغة… هناك لحظات في حياتي كانت كفيلة بأن تُسقطني في هوّة اليأس، لولا أنني أمسكت بكتاب من كتبه. لحظة خذلان، لحظة حزن، لحظة شكّ في الذات، فكان هو هناك، يبتسم لي من بين السطور، يرمش بعينه من بين الحروف، ويقول لي بثقة العارف: “مررنا من هنا… وستمرين”.

كان أحمد خالد توفيق يكتب كما يُقاتل المحاربون… لا ليربح، بل ليُبقي من بعده أثرًا. وربح الرهان. فكتبه اليوم ليست مجرّد أعمال أدبية، بل هي طوق نجاة. كل كتاب له هو نفس نقي نأخذه وسط دخان الحياة المسموم.

“أريد أن أُدفن في مقابر المسلمين، لا العلماء ولا الأدباء ولا الأطباء.”

“إذا أردت أن تحطم إنسانًا، فاجعله يكره نفسه.”

لأنك كنت الضوء في زمن العتمة
إلى العرّاب الذي لم يعرفني، لكنني عرفتُه أكثر مما عرفتُ أقرب الناس إليّ. إلى من علّمني أن الكتابة يمكن أن تكون حضنًا، أن تكون وطنًا، أن تكون مقاومة. إلى من جعلنا نؤمن أن الكاتب ليس بالضرورة أن يكون على شاشات التلفاز، بل في قلوب الناس.

كان يمكن لحكاية “العرّاب” أن تكون حكاية كاتب عادي، يكتب ويمضي كما يمضي العابرون. لكنه قرر أن يترك أثرًا. أن يُنبت من كلماته غابة دفء في أرواحنا، وأن يظل صوته حيًّا، رغم أن جسده غاب.

حين مات، صمتت مواقع التواصل للحظات، وعمّ الحزن كما لو أن أبًا حنونًا رحل. لم يكن “فنانًا جماهيريًا”، ولم تكن له برامج، أو مؤتمرات، أو ألقاب تُرصّع اسمه. لكنه كان أعظم من ذلك كله… كان الإنسان الذي نحلم أن نكونه. بسيطًا، صادقًا، موهوبًا، ونقيًا في زمنٍ ملوّث.

في غيابه، بتنا نُدرك أكثر معنى أن يكون الإنسان حيًّا بما يترك، لا بما يملك. أن تكتب كما لو كنت تزرع نخلاً، لا تستعجل ثمره، لكنك تؤمن أنه سيُظلّل أحدًا ذات يوم.

أكتب اليوم عن أحمد خالد توفيق، وأنا أعلم تمامًا أن كلماتي لن تفيه حقّه، لكنها جزء من طقوس الوفاء. جزء من امتنانٍ عميق لا يُقال، بل يُكتب. لأنه وحده من جعلنا نحب الكلمة ونخافها ونؤمن بها في آنٍ واحد.

نم في سلام يا من كنت سلامًا لنا…
نم في تراب الوطن الذي أحببته وبكيت لأجله كثيرًا…
نم مطمئنًا… فما زالت كتبك تُقرأ، وما زال جيلك يذكرك
حين يتعب، ويشتاق إلى وجهٍ لا يخون ولا يخذل.

أنت لم تتركنا حقًا…
أنت تسكننا.
وما يسكن القلب… لا يُدفن.

دكتور أحمد خالد توفيق…
يا من زرعت الحرف فينا حتى أصبحنا نُثمِر إنسانية…
يا من رويت أرواحنا العطشى للحكمة، للدفء، للصدق…
نم قرير العين، فثمّة جيل بأكمله لا يزال يحفظ اسمك كما يحفظ اسمه، ويتذكرك كلما ظنّ أن هذا العالم بلا طُهر ولا معنى.

نم مطمئنًا…
فما كتبتَه في قلوبنا لا يموت.
ولا يُدفن.
ولا يُنسى”

من مؤلفاته :
“سلسلة ما وراء الطبيعة”
“فانتازيا”
“سفاري”
“الآن نفتح الصندوق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock