
لم تكن الأسرة في يوم من الأيام مجرد جدران أربعة وسقف يحتمي به الأبناء، بل كانت المدرسة الأولى، والمصحف الأول، والمسرح الأول الذي تُصاغ فيه الأخلاق وتُهذّب فيه الأذواق وتُغرس فيه القيم. كانت الأم تُعلّم بالصبر والقدوة، وكان الأب يُربي بالموقف والنصيحة قبل العصا والكلمة. وكان الأبناء يترعرعون في ظلال الاحترام المتبادل، فتتشكل شخصية الإنسان المصري بملامح الوقار، والحياء، والنخوة.
لكن عجلة العصر، حين هرولت بسرعة أكبر من قدرة الأسرة على اللحاق، تركت وراءها فراغًا هائلًا. لم يعد هناك ذاك الاجتماع الدافئ حول مائدة واحدة، ولا ذاك السمر الذي تُروى فيه الحكايات، ولا ذاك الحوار الذي يُهذّب الخلافات. تراجع صوت الأسرة أمام ضجيج الشاشات، وتضاءلت هيبتها أمام سطوة الشارع، وضعفت سلطتها أمام غواية مواقع التواصل.
والنتيجة؟ تهميشٌ ضرب قلب الأسرة، فانعكس على الأخلاق والذوق العام. رأينا في الشوارع لغة خشنة لم تكن يومًا لغتنا، ورأينا جفاءً في التعامل يفتقد روح المروءة، ورأينا أجيالًا تبحث عن القدوة في الغرباء بعدما غابت عن البيت. لم يعد الحياء زينة الفتاة كما كان، ولا النخوة عَصَب الشاب كما عهدنا، لأن النبع الأصيل جفَّ أو كاد.
إن تهميش الأسرة ليس مجرد خطأ اجتماعي، بل جريمة حضارية. فحين تُترك الأسر دون دعم حقيقي، وحين تتعرض لموجات تكسير متعمد عبر الإعلام أو غياب السياسات التي تُساندها، يكون الناتج المباشر انكسار الذوق العام وضياع الموازين الأخلاقية.
واليوم، إذا أردنا أن نعيد للوطن صلابته وقيمه، فعلينا أن نعيد للأسرة مكانتها. فالمدرسة لا تُغني عن الأم، ولا الجامعة تعوّض دور الأب، ولا القانون يُصلح ما فسد إذا غاب الضمير الذي تزرعه الأسرة.
فلنستفق قبل أن نُصبح جموعًا بلا جذور، وشارعًا بلا قيم، وأمة بلا ذاكرة. فحماية الأسرة ليست ترفًا اجتماعيًا، بل قضية وجود.. إن أردنا بقاء هذا الوطن عزيزًا كريمًا.