
الفرق بين الدعوة والفتوى
رؤية فكرية في ضبط الخطاب الديني وتجديد مرجعيته
تحديات الخطاب في زمن التسارع الإعلامي:
في زمنٍ تتسارع فيه وسائل الإعلام، وتتنوع منابر الحديث باسم الدين، اختلطت عند كثيرين مفاهيم الدعوة والفتوى.
حتى صار بعض الوعّاظ والمتحمسين يخلط بين التوجيه العام والإلزام الشرعي، وبين النصح الوعظي والحكم الفقهي.
وهنا تبرز الحاجة إلى تبيين الفرق الجوهري بين المجالين، وإلى ضبط من يتصدر لكلٍّ منهما، حمايةً للدين من التحريف، وللناس من الحيرة والاضطراب.
التمايز المنهجي بين الواعظ والمفتى:
مجال الدعوة أعمّ وأوسع، إذ يتناول الترغيب والترهيب، والتذكير بالله، وبثّ روح الإيمان والفضيلة، وتزكية النفوس بالأسلوب الحسن والموعظة الحسنة.
أما الفتوى فهي مجالٌ أخصّ، تتعلق ببيان الحكم الشرعي في واقعةٍ محددة، أو مسألةٍ بعينها، وفق ضوابط العلم والاجتهاد، وميزان المقاصد والمآلات.
تلازم الأدوار وحدود التأهيل:
ومن ثمّ، فكلُّ مفتٍ لا بد أن يكون داعية، لأن الفتوى في حقيقتها دعوةٌ إلى شرع الله.
ولكن ليس كلُّ داعيةٍ يصلح لأن يكون مفتيًا، إذ إن الإفتاء يحتاج إلى تهيئةٍ علميةٍ دقيقة، وخبرةٍ عمليةٍ واقعية طويلة، وإلى خصائص نفسيةٍ وعقلية، وخبرةٍ مجتمعيةٍ خاصةٍ جدًا.
ومن أخطر ما يكون في واقعنا:
التصدُّر للفتوى دون استحقاقٍ أو تأهيلٍ كافٍ.
مأزق الغلوّ في منهج التشدد:
لقد ابتُلينا في واقعنا المعاصر بصنفين من المتصدرين للفتوى.
صنفٌ يعتمد منهج التشدد والرأي الأوحد.
فيُضيّق ما وسّعته الشريعة، ويوقع الناس في الحرج والعَنَت والمشقة.
فوضى التفريط في منهج التمييع:
وصنفٌ آخر يعتمد منهج التمييع والتسطيح.
فيُضيّع معالم الشريعة بحجة التطوير والتجديد.
وخطرُ الصنفين واحد.
فالأول مُتطرّفٌ بالغلوّ،
والثاني جاحدٌ بالتفريط.
وكلاهما انحرافٌ عن وسطية الإسلام واعتداله التي قال الله عنها: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً سورة البقرة: 143.
الإصلاح بالعلم والفكر والحوار:
إن علاج هذين الاتجاهين لا يكون بالأمن أو بالسياسة،
وإنما يكون بالعلم والفكر الحوار الرشيد،
وبإحياء مرجعيةٍ علميةٍ راسخةٍ
تردّ الأمور إلى نصابها، وتزن الأقوال بميزان الشرع والعقل معًا.
آليات الضبط المؤسسي وصلاحية التوثيق:
وأرى أن باب الفتوى لا ينبغي أن يُفتح إلا لمن نال إجازةً علميةً وخبرةً عمليةً في هذا المجال،
وأن تُعرَض الفتاوى الشاذة على لجنة علمية متخصصة تابعةٍ للأزهر الشريف، لتحاكمها علميًّا، ثم قانونيًّا عند اللزوم، حمايةً لعقول الناس من الاضطراب، وللشريعة من العبث والتسييس.
ويتطلب هذا الإصلاح بالضرورة تمكين المؤسسات الدينية من القيام بواجبها دون ضغوط أو قيود،
وإعطاءها الصلاحية الكاملة في توثيق المتصدرين للدعوة وللفتوى على حد سواء؛
ليكون هذا التوثيق هو المعيار الوحيد والأوحد للأهلية والمشروعية في مخاطبة الجماهير.
خطورة الانتقائية في مواجهة التطرف:
أما ملاحقة المتشددين، وتشجيع المنفلتين،
فذلك يُعطي انطباعًا سلبيًا بأن الهدف محاربةُ التدين لا محاربةُ التطرف،
في حين أن كليهما — الغلوّ والتفريط — في الضرر سواء.
خاتمة المقال:
إن حماية الفضاء الديني من العبث والارتجال أمانةٌ في عنق المؤسسات والدولة معاً؛
ولن يستقيم أمرُ الخطاب الديني إلا بمنح أهل التخصص كامل الاستقلالية والصلاحية في فرز الغثّ من السمين،
ليبقى الدين منارةً للهداية لا ساحةً للمزايدة،
ولتظل الفتوى صمام أمانٍ للمجتمع، لا وقوداً للحيرة والفتن.
د #كامل_النحاس



