مقالات وآراء

الوعي… القوة الهادئة في بناء الأسرة والمجتمع

بقلم الدكتورة: إيمان سماحة

ليس أخطر ما يواجه الأسرة والمجتمع الفقرُ، ولا التحدياتُ الاقتصادية، ولا حتى الصراعاتُ الظاهرة، بقدر ما يواجههما الغيابُ الصامتُ للوعي؛ ذلك الغياب الذي لا يُحدِث ضجيجًا، لكنه يُربك القرارات، ويشوِّه العلاقات، ويحوِّل التفاصيل الصغيرة إلى أزماتٍ متراكمة. فالوعي لا يطرق الأبواب بصوتٍ عالٍ، لكنه حين يكون حاضرًا يُغيِّر كل شيء: طريقة التفكير، وأسلوب الحوار، وحدود الاختلاف، ومعنى المسؤولية.

ومن هنا يغدو الوعي حجرَ الزاوية في بناء أسرةٍ مستقرة، ومجتمعٍ قادر على الاستمرار، لا مجرد البقاء.

وتبدأ قصة الوعي من داخل الأسرة، بوصفها الخلية الأولى التي تتشكَّل فيها ملامح الإنسان.

فالأسرة الواعية لا تُقاس بكثرة التوجيهات بقدر ما تُقاس بجودة الحوار، ولا تُبنى على السلطة بقدر ما تُرسَّخ بالقدوة.

وحين يدرك الوالدان أن التربية ليست أوامرَ جاهزة، بل عمليةً مستمرة من الإصغاء والتفسير والمرافقة، تتكوَّن لدى الأبناء مناعةٌ فكرية تحميهم من الانسياق وراء السطحيات أو الانغلاق على الذات.

فالوعي هنا لا يعني المثالية، وإنما الاعتراف بالأخطاء، والتعلُّم منها، وإتاحة مساحةٍ آمنة للتعبير والسؤال.

ولا يقف أثر الوعي عند حدود التربية اليومية، بل يمتد إلى إدارة الأزمات الأسرية.

فالخلافات أمرٌ طبيعي، غير أن الوعي يحوِّلها من معارك إلى فرصٍ للفهم. والأسرة التي تمتلك أدوات الوعي تستطيع التمييز بين المشكلة والشخص، وتدرك أن الاحترام ليس تنازلًا، وأن الحوار ليس ضعفًا.

وبهذه الروح تُبنى علاقات أكثر توازنًا، ويكبر الأبناء وهم يحملون نموذجًا صحيًا للتواصل الإنساني.

وعلى مستوى المجتمع، يتضاعف دور الوعي ليغدو عاملَ تماسكٍ لا غنى عنه. فالمجتمع الواعي هو الذي يُحسن إدارة تنوُّعه، ويقاوم الاستقطاب، ويُقدِّم المصلحة العامة دون إقصاء.

ويتجلّى الوعي المجتمعي في احترام القانون، وتقدير قيمة العمل، والقدرة على النقد دون تشهير، وعلى الاختلاف دون كراهية.

وهو أيضًا وعيٌ إعلامي يميّز بين الخبر والرأي، ووعيٌ رقمي يحمي من التضليل، ووعيٌ مدني يعزِّز المشاركة المسؤولة.

وتقوم العلاقة بين الأسرة والمجتمع على التبادلية؛ فأسرةٌ واعية تُخرِّج أفرادًا مسؤولين، وهؤلاء بدورهم يرفعون منسوب الوعي العام. وعندما تتكامل أدوار التعليم والإعلام والمؤسسات الثقافية، يتحوَّل الوعي إلى مشروعٍ وطني، لا مبادرة عابرة؛ مشروعٍ يستثمر في الإنسان، ويمنح الأولوية لقيمٍ عملية مثل الصدق، واحترام الاختلاف، والعمل المشترك.

وفي المحصلة، فإن الوعي ليس خطابًا نخبويًا، بل ممارسةٌ يومية تبدأ بسؤالٍ بسيط: كيف نفهم قبل أن نحكم؟ وكيف نختلف دون أن نتخاصم؟ وحين نجد إجاباتٍ صادقة عن هذه الأسئلة داخل بيوتنا، وفي ساحاتنا العامة، نكون قد وضعنا حجر الأساس لأسرةٍ أكثر تماسكًا، ولمجتمعٍ أكثر قدرة على صناعة المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock