شرق المتوسط يوقظ شهية الطاقة: صفقة قطر للطاقة تفتح فصلًا جديدًا قبالة السواحل المصرية
بقلم الجيوفيزيقي- محمد العربي نصار

مقدّمة: بحرٌ يتحوّل إلى مسرحٍ للأرقام الكبيرة في أقلّ من عقد، انتقل شرق المتوسّط من “هامش الخريطة” إلى واحدة من أكثر مناطق الغاز حيوية في العالم. اكتشاف ظُهر العملاق عام 2015 أعاد رسم الجغرافيا الطاقية لمصر، وأطلق موجة استثمارات تبعها تشغيل حقول غرب دلتا النيل (Giza–Fayoum–Raven) ونورس وبلطيم جنوب غرب وغيرها، لتصبح مصر مركزًا للتسييل والتصدير عبر محطّتَي إدكو ودمياط.
اليوم، تدخل قطر للطاقة إلى المياه المصرية العميقة عبر شراكات مع إيني وشل، في خطوة تعزّز زخم الاستكشاف وتبعث رسالة واضحة: مستقبل المتوسّط لم يُكتب بعد.
خريطة الحقول… من الدلتا إلى الهيرودوت
ظُهر (إيني): أكبر الاكتشافات في تاريخ مصر الحديث؛ ركيزة أمن الإمدادات وخبرة تشغيل في أعماق البحر.
غرب دلتا النيل (بي بي): حزمة حقول بحرية أعادت التوازن لإمدادات الغاز وربطتها بالبنية التحتية الساحلية.
وِست دلتا ديب مارين (شل): برنامج بحري ممتدّ منذ حقبة BG، رسّخ مدرسة تشغيل في المياه المتوسطة إلى العميقة.
نرجس (شراكة بقيادة إيني/شيفرون): اكتشاف حديث يفتح نافذة على مكامن أبعد في حوض هيرودوتوس العميق.
إلى جانب ذلك، تنتشر حقول متوسطة وصغيرة على طول دلتا النيل الساحلية، تشكّل “الكتلة الحرجة” التي تُبقي معامل المعالجة وخطوط الأنابيب قيد النبض.
اللاعبون: من هم أصحاب الياقات الزرقاء على المنصة البحرية؟
إيني: مهندس التحوّل المصري منذ ظُهر؛ مدرسة تشغيل ومخاطرة محسوبة.
بي بي: عقلية “المحفظة المتوازنة” بين تطوير الحقول ونقل التكنولوجيا.
شل: إرث بحري طويل وخبرة في إدارة التسييل عبر إدكو.
شيفرون: حامل راية شرق المتوسط بعد استحواذها على أصول نوبل إنرجي؛ شريك مفصلي في اكتشافات الحدود الجديدة.
توتال إنرجيز/إكسون موبيل: وجود استكشافي ذكي يترقّب “الضربة الكبيرة”.
قطر للطاقة: الوافد الثقيل ماليًا وتشغيليًا، يدخل بحصص استراتيجية في شمال رفح وشمال كليوباترا، ما يمزج سيولة الخليج بخبرة المتوسط.
الشركات المصرية (إيجاس، ثروة، الخ): شراكات محلية تُسرّع الاعتماد على سلاسل إمداد وخدمات وطنية.
الصفقة التي تشعل الضوء الأخضر
إعلان قطر للطاقة الاستحواذ على حصص في امتيازات بحرية قبالة مصر يضيف ثلاث طبقات قيمة:
1. تمويل ثقيل يسمح ببرامج مسوحات ثلاثية الأبعاد وحفر استكشافي عالي الكلفة.
2. تقاطع خبرات بين مدارس تشغيل مختلفة (إيني/شل/شركاء آخرين).
3. بوابة تصدير جاهزة عبر دمياط وإدكو تمنح أي كشف اقتصادي مسارًا سريعًا للأسواق.
في 5 أكتوبر 2025، أعلنت قطر للطاقة (QatarEnergy) عن توقيع اتفاقية مع شركة شل (Shell) للاستحواذ على حصة 27% في امتياز شمال كليوباترا البحري (North Cleopatra) الواقع في حوض هيرودوتوس بالبحر المتوسط قبالة السواحل المصرية. بموجب الاتفاق، تحتفظ شل بنسبة 36% كمشغل رئيسي، وشيفرون 27%، وثروة للبترول 10%. تبلغ مساحة القطاع نحو 3,400 كيلومتر مربع، في أعماق تصل إلى 2,600 متر، وتخضع الصفقة حينها لموافقة الحكومة المصرية النهائية.
بعد أقل من ثلاثة أسابيع، في 27 أكتوبر 2025، كشفت قطر للطاقة عن اتفاقية جديدة مع شركة إيني (Eni) للاستحواذ على 40% من امتياز شمال رفح البحري (North Rafah)، الذي يمتد على مساحة نحو 3,000 كيلومتر مربع بعمق مياه يصل إلى 450 مترًا، قبالة الساحل الشمالي الشرقي لمصر. وقد حصلت الصفقة على موافقة رسمية من الحكومة المصرية، بينما احتفظت إيني بحصة 60% كمشغل للمشروع.
تمثل هاتان الصفقتان أول توسع مباشر لقطر للطاقة في المياه المصرية، ضمن استراتيجيتها لتعزيز حضورها في شرق المتوسط، مستفيدة من البنية التحتية المصرية للتسييل والتصدير عبر محطتي إدكو ودمياط. وبهذا، يُعد أكتوبر 2025 شهرًا مفصليًا يرسخ الشراكة القطرية-المصرية في مجال استكشاف الغاز البحري، ويفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الاستثمارات في أعماق المتوسط.
لماذا المتوسّط الآن؟
جيولوجيا متعدّدة القصص: دلتا النيل وأنظمة الترصّف العميقة، مع مكامن كربوناتية ورملية تتعايش في حوض واحد، تَعِد بمزيد من المفاجآت.
تكلفة–مخاطرة محسوبة: نعم، الحفر في أعماق 1000–2500 متر ليس نُزهة، لكن البنية التحتية المصرية القائمة تُخفّض “كلفة الوحدة المباعة” عند النجاح.
طلبٌ إقليمي–أوروبي متقلّب: أوروبا تبحث عن غاز بديل ومستقر؛ ومصر تمتلك نقطة تسييل قريبة من الموانئ الأوروبية.
تسارع التكنولوجيا: منصّات حفر الجيل الخامس، ومعالجة زلزالية فائقة (FWI/RTM)، وأنظمة إنتاج تحت البحر Subsea تزيد احتمالات النجاح وتُقلّل زمن التطوير.
من الزلزالية إلى التصدير… الطريق الواقعي
1. إعادة معالجة البيانات وبناء نماذج جيولوجية–جيوفيزيائية عالية الدقة.
2. الحفر الاستكشافي بأول بئر “مفتاح” (الخط الفاصل بين الفرضية والواقع).
3. آبار تقييم لتثبيت الحجم القابل للاستخراج وخيارات التطوير.
4. قرار استثماري نهائي (FID) يوزن كلفة المنصّات والربط بالشبكة الساحلية.
5. التشغيل والإرساء للبنية التحتية ثم التصدير عبر إدكو/دمياط أو توجيه الغاز للسوق المحلي حسب الحاجة الموسمية.
التحديات التي لا يجب أن نُخفض صوتها
أعماق كبيرة وتقلبات أسعار تعني أن أي تأخير قد يضغط على العائد.
نافذة سوق ضيقة: أوروبا تُسرّع التحوّل الطاقي؛ السباق على “زمن الوصول” مهم.
بيئة وتشريعات: موازنة “غاز أكثر/انبعاثات أقل” عبر خفض الحرق وتحسين كفاءة الانبعاث الكربوني لكل مليون وحدة حرارية.
سلاسل الإمداد: الحاجة إلى قدرة محلية في الخدمات البحرية واللوجستيات لتقليل تعطل المشاريع ورفع المحتوى المحلي.
مصر كمركز إقليمي… ما الذي يجعل القصة مختلفة؟
محطّتا تسييل عاملتان تمنحان أي كشف تجاري “ممرًا سريعًا” للأسواق.
شبكة نقل ومعالجة ممتدّة على الساحل، تقلّل الإنفاق الرأسمالي الإضافي.
منتدى غاز شرق المتوسط يُحسن التنسيق الإقليمي ويخلق لغة مشتركة للمشاريع العابرة للحدود.
شركاء متنوّعون: من “مدارس المتوسط” (إيني/شل) إلى “سيولة الخليج” (قطر للطاقة) و“تقنية الأطلسي” (بي بي/شيفرون/توتال/إكسون).
سيناريوهات 2026–2030: ماذا لو؟
سيناريو الانطلاقة: نجاح بئر أو اثنتين في المياه العميقة (شمال رفح/هيرودوتوس) يُضيف موجة إمدادات تُنعش محطّات التسييل وتستقطب خدمات بحرية واستثمارات لوجستية.
سيناريو المسار الوسطي: اكتشافات متوسطة الحجم تُحافظ على الإنتاج، مع تحسين الكفاءة وتقليل كلفة السلسلة حتى الوصول إلى كشف “مبدّل قواعد”.
سيناريو الانكماش: تأخير في الحفر/الأسعار/التمويل يضغط على الجدوى؛ عندها يصبح تحسين الإنتاج من الحقول القائمة وتحديث البنية التحتية هو خط الدفاع الأول.
خاتمة: موجة ثانية… هذه المرّة أعرض
صفقة قطر للطاقة ليست خبرًا عابرًا، بل إشارة بدء لموجة ثانية من الاستكشاف البحري في مصر. الخبرة الإيطالية والإنجليزية والأمريكية، مضافًا إليها التمويل الخليجي والبنية التحتية المصرية، تصنع مزيجًا نادرًا في عالم الطاقة: جرأة محسوبة وزمن استجابة قصير.
إذا كان اكتشاف “ظُهر” قد قلب الطاولة مرّة، فالمتوسّط يستعد—على ما يبدو—لقلبها ثانية. والسباق الحقيقي الآن هو: من يصل أولًا إلى الاكتشاف الذي يكتب اسمَه على خريطة البحر… ويكتب معَه فصلًا جديدًا في قصة الطاقة المصرية.


