في لحظة موسيقية يصعب تجاهلها، يخرج إلى الجمهور العربي ديو «قولو ماشالله» الذي جمع بين النجم العراقي أحمد القيسي والنجم اللبناني إيوان في عمل ليس مجرد أغنية عابرة، بل حالة فنية متكاملة تضع المستمع في مساحة جمالية صاغها اللحن بروح شرقية عصرية، وصقلتها الكلمات في بناء عاطفي محكَم، بينما تولّت رندلى قديح تحويل الصوت إلى صورة نابضة بالحياة. هذا العمل لم يأتِ بنتيجة الصدفة، بل بتركيب دقيق يشبه معادلة موسيقية تحترم الذائقة الحديثة دون أن تتخلّى عن الروح الشرقية التي تظل مصدر الدفء والهوية.
من اللحظة الأولى، يتبدّى أن أحمد القيسي لم يكتفِ بكونه مطربًا يشارك بالصوت فحسب، بل اختار أن يكون مهندس اللحن، وهو قرار يحمل دلالة على وعي فني متنامٍ لديه، فالرجل يدرك تمامًا ما يناسب طبقاته الصوتية وما ينسجم مع طبيعة أداء زميله في الديو، ولذلك جاء اللحن مشغولًا بحس موسيقي ذكي يعتمد على الجملة القصيرة المعبّرة، مع ميل واضح إلى الإيقاع الحركي الذي يخدم النص ويمنحه طاقة دفع مستمرة. هنا تظهر خبرة الملحّن في كيفية تحويل الكلمات إلى مشهد صوتي متكامل، خصوصًا عندما نصل إلى الجملة الأساسية التي تضرب مباشرة في الذاكرة: “يلا قولو ماشالله”، وهي جملة تُبنى عليها الهوية التسويقية للأغنية، لأنها سهلة، مباشرة، ولا تنفصل عن المزاج الشعبي العربي.
الكلمات التي كتبها عمار محمد تنتمي إلى مدرسة التعبير العاطفي الحميمي الذي يقترب من المستمع دون فلسفة زائدة، لكنه في الوقت نفسه يحمل صورًا لغوية ناعمة مثل: “الطف بشر بالكون… حبيبي مو غيره”، وهي مفردات تخلق انطباعًا بصريًا يربط بين العاطفة والإنسان، بين العلاقة والحماية، وهذا ما يجعل النص شديد الانسجام مع صوتي القيسي وإيوان اللذين يتقاسمان أدوار الأداء دون صراع أو مبالغة، بل بتناغم يجعل المستمع يشعر أنه في حوار غنائي لا في منافسة صوتية.
أما توزيع إحسان صادقي فجاء قائمًا على فكرة «الإيقاع الحامي» الذي يمنح الديو نبضًا شبابيًا واضحًا، من خلال استخدام طبقات إلكترونية خفيفة فوق الإيقاع الشرقي، ليبدو العمل منتميًا إلى العصر لكنه غير متصادم مع الهوية الأصلية، فيما جاءت لمسة فارشيد على الجيتار بمثابة توقيع جمالي خاص، فالجيتار هنا ليس مجرد آلة مرافقة، بل عنصر يضبط المزاج الموسيقي، ويخلق الجسر الهادئ بين المقاطع، تمامًا كما يحدث عندما تُفتح نافذة صغيرة في لحن دافئ ليدخل منها الهواء.
على مستوى الأداء، يظهر أحمد القيسي بحضوره الصوتي المعتاد: خامة دافئة، إحساس عاطفي مباشر، وطريقة نطق قريبة من الجمهور العراقي والخليجي، بينما يطل إيوان بشخصيته الصوتية المعروفة القائمة على السلاسة والمرونة والتحكّم في الطبقات المتوسطة، وهنا تكمن اللعبة الحقيقية: اختلاف اللهجتين بين العراقي واللبناني تحوّل من تحدٍ إلى ميزة فنية، إذ خلق هذا التباين صوتًا جماعيًا جديدًا لا يشبه أحدًا منهما بشكل منفرد، بل يشبه العمل نفسه وكأنه كائن موسيقي مستقل.
عند الانتقال إلى الفيديو كليب، تنجح رندلى قديح في إعادة صياغة العلاقة بين الصوت والصورة، ليس عبر اعتماد مشاهد معقدة أو مؤثرات متخمة، بل من خلال التبسيط المدروس الذي يجعل اللقطة منتجة للمعنى دون ازدحام بصري. فالمخرجة تمتلك القدرة على خلق إيقاع بصري موازٍ للإيقاع الموسيقي، وهذا ما يتجلّى في حركة الكاميرا وألعاب الضوء وأنسنة المشاهد، لتبدو بيروت في الكليب كأنها شريك ثالث في الأغنية، لا مجرد خلفية.
اختيارات الستايلست علي قديح جاءت جزءًا من هذا الوعي الجمالي، فالملابس لم تكن مجرد أزياء، بل لغة تُكمّل الحالة؛ إطلالات عصرية لإيوان والقيسي تشكل امتدادًا لروح الأغنية ولا تتعارض مع البساطة التي أرادها العمل. واللافت أن كل تفصيلة صغيرة، من الألوان إلى الإكسسوارات، صُنعت لتخدم الصورة لا أن تطغى عليها.
نجاح الديو، الذي بدأ يتبلور منذ الساعات الأولى لطرحه، لم يكن مفاجئًا، لأن العمل يستثمر نجاحات النجمين؛ فإيوان لا يزال يحصد صدى أغنيته «فوق فوق» ونسخة الريمكس الخاصة بها، بينما يواصل القيسي تمديد حضوره بأغنيات تركت بصمتها مثل «منك رسالة» و«أسعد واحد» و«جمالك». لكن الجديد هنا أنّ «قولو ماشالله» لا تعتمد على أي نجاح سابق بقدر ما تخلق عالمها الخاص، وكأنها عمل صُنع ليقف مستقلًا، بصوتين متكاملين ورؤية إخراجية لها فلسفتها الخاصة.
في النهاية، يمكن القول إن هذا الديو لا يقدّم مجرد أغنية، بل يقدم تصورًا جديدًا عن معنى التعاون العربي في الموسيقى، يثبت أن التلاقي بين العراق ولبنان لا يحتاج إلى تنظير بقدر ما يحتاج إلى صدق فني يتجلى في الكلمة واللحن والأداء والصورة. «قولو ماشالله» ليست أغنية فقط… إنها إعلان موسيقي متكامل عن قدرة الفن على تشكيل حالة وجدانية تعبر فوق الحدود واللهجات وتصل مباشرة إلى القلب.