فن وثقافة

أنا من مر من هنا “

طارق غريب - مصر

” أنا من مر من هنا ”

في ليلةٍ هادئة ، على خشبة مسرح صغيرة

مضاءة بضوء مصباح واحد معلق من السقف كنجمة وحيدة

يقف رجل عجوز ، يرتدي معطفاً قديماً

يحمل رائحة المطر والتراب والذكريات

لا يوجد جمهور كبير ، فقط بضعة كراسي فارغة

وبعض الوجوه التي جاءت بحثاً عن شيء لا تستطيع تسميته

يبدأ العجوز بالكلام ، بصوتٍ خشن

كأنه يخرج من أعماق الأرض :

أيها الناس ، أو ربما أيها الفراغ الذي يستمع

مر إنسان من هنا ذات يوم

لم يكن ملكاً ، ولا نبياً ، ولا بطلاً من أبطال الأساطير

كان فقط إنساناً.

صافح الحياة بكفين مفتوحتين ، لا يطلب شيئاً

ولا يرفض شيئاً.

لم يصرخ في وجه الألم ، ولم يركع أمام الفرح

قبل الاثنين معاً ، كما تقبل الشجرة المطر والشمس في آن

ترك رائحة خلفه.

ليست رائحة عطر فرنسي

ولا دخان سيجارة ولا عرق الخوف

رائحة إنسان.

رائحة من عاش بصدق.

من بكى دون أن يخجل ، وضحك دون أن يتظاهر

وأحب دون أن يحسب ، وخسر دون أن يلعن.

رائحة من مشى في الطريق ، فسقط ، فقام

فسقط ثانية ، ثم قام ومشى مرة أخرى

دون أن يسأل : لماذا أنا ؟

رائحة من قال الحقيقة حين كان الكذب أسهل

وصمت حين كان الصخب أكثر جاذبية.

رائحة من نظر في عيون طفل

فرأى فيها العالم كله ، ثم نظر في عيون عجوز

فرأى فيها العالم نفسه ، لكنه أكثر حكمة وأقل بريقاً

مرّ من هنا ، فترك رائحة.

ونحن ، نحن الذين بقينا ، نمرّ من هنا كل يوم

نجري ، نلهث ، نصنع ضجيجاً كبيراً

نكتب أسماءنا على الجدران ، نصور أنفسنا أمام المرايا

نصرخ : أنا هنا! ، أنا موجود!

لكننا لا نترك رائحة. نترك غباراً فقط

غبار أحلام مؤجلة ، وكلمات غير صادقة ، وقلوب مغلقة.

أيها الفراغ

إذا مررت يوماً من مكان ما ، وشممت رائحة إنسان

توقف. تنفس بعمق.

فهذا يعني أن الحياة لا تزال تمر من هنا

بكل صدقها ، وكل ألمها ، وكل جمالها.

وهذا يعني أننا ، ربما ، لا نزال قادرين على أن نكون بشراً.

ينحني العجوز قليلاً كأنه يودع

يطفئ المصباح بيده ، وتبقى الرائحة.

تبقى الرائحة وحدها في الظلام ، تذكر كل من سيمر لاحقاً

أن الصدق لا يموت. وأن الإنسانية مهما غُطيت بالغبار

تبقى عطراً لا يُنسى.

( في تلك اللحظة التي ينطفئ فيها المصباح

ويغلف الظلام المسرح كله ، لا يختفي الصوت تماماً

يبقى صداه يتردد في الجدران القديمة

كأن الحجر نفسه يتنفس )

ثم ، من بين الكراسي الفارغة

يقوم شاب لم يكن أحد يلاحظه من قبل

يرتدي قميصاً بسيطاً وفي عينيه بريق غريب

مزيج من الحيرة واليقين.

يتقدم نحو الخشبة بخطى بطيئة

كأنه يخشى أن يزعج الرائحة التي تركها العجوز.

يقف حيث وقف العجوز ، ويرفع صوته ، ليس عالياً

بل هادئاً كأنه يهمس لنفسه وللفراغ معاً :

أيها العجوز الذي مررت من هنا

سمعت كلامك ، وشممت رائحتك

لكنني أتساءل

هل الصدق دائماً يترك رائحة؟

أم أن بعضنا يعيش بصدقٍ صامت

لا يُرى ولا يُشم ، لكنه يوجد؟

أنا مررت من هنا كثيراً.

صافحت الحياة بيدين مرتجفتين أحياناً

وبيدين قويتين أحياناً أخرى.

بكيت في الخفاء ، وضحكت في العلن

وأحببت حتى الجنون ، وخسرت حتى الرماد

قلت الحقيقة فطُردت ، وكذبت فاحتُضنت

سقطت مرات لا أحصيها ، وقمت مرات أقل

ونظرت في عيون الأطفال فرأيت براءة تُخيفني

وفي عيون العجائز رأيت حكمة تُرهقني

لكنني لا أعرف ، هل تركت رائحة؟

أم أنني ما زلت أبحث عن الصدق الكامل الذي يُعطر الهواء؟

ربما الرائحة لا تأتي إلا حين ننتهي من البحث

حين ندرك أن الصدق ليس كمالاً ، بل محاولة

ليس انتصاراً ، بل استمراراً

ليس عطراً نفوح به ، بل أثراً نتركه دون أن ندري

أيها العجوز ، شكراً لأنك مررت من هنا

فالآن ، وبعد كلامك ، سأحاول أن أمشي ببطء أكثر

أن أتنفس بعمق أكثر ، أن أعيش بصدقٍ أكثر

حتى إذا مر أحد بعدي يوماً ، وشمّ رائحة إنسان

يعرف أنني كنت هنا

لست ملكاً ولا نبياً ولا بطلاً

كنت فقط إنساناً يحاول

)يصمت الشاب (

لا يطفئ المصباح هذه المرة

يتركه مضاء ، كأنه يقول للظلام : لا تخف ، فالرائحة الآن أقوى

رائحتان التقتا في مكان واحد

رائحة عجوزٍ انتهى ، ورائحة شاب بدأ

وتبقى الخشبة ، تحمل الأثرين معاً

وتبقى الحياة ، تمر من هنا

بكل من يجرؤ على مصافحتها بصدق

حتى لو كان الصدق لا يزال في الطريق إليها

ستار

طارق غريب – مصر

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock