الحمد لله بلطفه تنكشف الشدائد وبصدق التوكل عليه يندفع كيد كل كائد، ويتقى شر كل حاسد، أحمده سبحانه وأشكره على جميع العوائد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له في كل شيء آية تدل على أنه الأحد الواحد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، جاء بالحق، وأقام الحجة على كل معاند صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه السادة الأماجد والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ثم أما بعد ذكرت المصادر الإسلاميه أنه عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، خطب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الناس، فخوّف المنافقين، فكانت خطبتان في ذلك الوقت جاءتا في وقت أقل ما يقال عنه أنه إستثنائي، إنها هزة حقيقية للإسلام برمته، قد تنفلت الأمور ويشغب المنافقون، وقد تختلط الأمور ويحار العاقلون، فكانت الخطبة الأولى.
ردعت من سيشغب، والثانية أيقظت من سيحار، فكانت خطبتان للرجلين الأكثر قوة في الدولة وهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، ولم يمضي على وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ساعات، لنعلم مدى أهمية الخطبة في الأحوال الاستثنائية، وكلاهما يرد المخاطبين إلى الله ورسوله، والأنصار سمع وطاعة، ألم يتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع عن الذي إن تمسكوا به فلن يضلوا؟ وبايع الخاصة إلا أن العامة لم يبايعوا بعد، لم ينته الظرف الإستثنائي ولا زلنا في حاجة للمزيد من الخطب، يصمت هذه المرة الخليفة المرشح ويتحدث بين يديه مساعده الفاروق، وأخيرا تم المراد، وانتقل الحكم بكل سلاسة ويسر، وبايع الناس خاصتهم وعامتهم، ولم ترق قطرة دم، ولم يستغرق الأمر أكثر من أربع وعشرين ساعة، هل كان لذلك الحشد من الخطب.
دور إنجاح هذه العملية السياسية الضخمة، نعم ولا شك، وتنتقل المصادر التاريخية إلى مثال آخر يبين بشكل واضح أهمية الخطبة في إشعال الحروب، لكنه من أوربا، ومن مدينة كليرمنت بجنوب فرنسا، حيث قرر البابا أوربان الثاني أن يشن حربه المقدسة على بلاد المسلمين، ولا بد له قبل ذلك من خطبة يثير بها الجموع الصليبية، يحركها لتعبر قارة كاملة لنتنقل من أوربا إلى آسيا، وقال البابا في خطابه ذاك يا شعب الفرنجة، يا شعب الله المحبوب المختار، لقد جاءت من تخوم فلسطين، ومن مدينة القسطنطينية أنباء محزنة تعلن أن جنسا لعينا أبعد ما يكون عن الله قد طغى، وبغى في تلك البلاد، بلاد المسيحين في الشرق، وقلب موائد القرابين المقدسة ونهب الكنائس وخربها وأحرقها وساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم، وقتلوا بعضهم الآخر بعد أن عذبوهم أشنع تعذيب.
ودنسوا الأماكن المقدسة برجسهم، وقطعوا أوصال الإمبراطورية البيزنطية، وانتزعوا منها أقاليم بلغ من سعتها أن المسافر فيها لا يستطيع إجتيازها في شهرين كاملين، على من تقع إذن تبعة الإنتقام لهذه المظالم، وإستعادة تلك الأصقاع إذا لم تقع عليكم أنتم، أنتم يامن حباكم الله أكثر من أي قوم آخرين بالمجد في القتال، وبالبسالة العظيمة، وبالقدرة على إذلال رؤوس من يقفون في وجوهكم، ألا فليكن من أعمال أسلافكم ما يقوي قلوبكم، أمجاد شارلمان وعظمته، وأمجاد غيره من ملوككم، وعظمتهم، فليثر همتكم ضريح المسيح المقدس ربنا، ومنقذنا الضريح الذي تمتلكه الآن أمم نجسة، وغيره من الأماكن المقدسة التي لوثت ودنست، لا تدعوا شيئا يقعد بكم من أملاككم أو من شؤون أسركم، ذلك بأن هذه الأرض التي تسكنونها الآن، والتي تحيط بها من جميع جوانبها البحار.
وتلك الجبال ضيقة، لا تتسع لسكانها الكثيرين، تكاد تعجر عن أن تجود بما يكفيكم من طعام، ومن أجل هذا يذبح بعضكم بعضا، وتتحاربوا، ويهلك الكثيرون منكم في الحروب الداخلية، طهروا قلوبكم إذا من أردان الحقد، واقضوا على ما بينكم من نزاع، واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبث، وتملكوها أنتم، إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها، هي فردوس المباهج، إن المدينة العظيمة القائمة في وسط العلم تستغيث بكم أن هبوا لإنقاذها، فقوموا بهذه الرحلة راغبين متحمسين، تتخلصوا من ذنوبكم، وثقوا بأنكم ستنالون من أجل ذلك مجدا لا يفنى في ملكوت السماوات” ولا تخفى مقاطع إثارة العاطفة في كلامه عندما يتحدث عن تعذيب المسيحين في الشرق وإضطهادهم، كما لا تخفى المناقشة المنطقية لضيق الرزق في أوربا.
وتسببه في الحرب الأهلية هناك، ثم تقديم ثمار القدس حلا لذلك الجوع، ولقد أثر هذا الخطاب في سامعيه حتى تدافعوا بالمئات يركعون أمام البابا في حماس منقطع النظير، وقد حملوا الصليب وأقسموا على تخليص المدينة المقدسة، وما لبثت الجموع أن وصلت بلادنا وأقامت أربع ممالك صليبية، القدس وطرابلس وأنطاكية والرها، تلك الخطبة القوية كانت سببا في إزهاق الكثير من الأرواح، مسلمها ومسيحيها، ولكن فرق بين من رسالتهم حفظ الدماء، وبين من رسالتهم سفك الدماء، والخطبة كالسكين تراها تارة بيد الطبيب، وتارة بيد المجرم، هذا ينقذ بها الأرواح وذلك يزهقها.