
”
في عالم يقف على حافة تحوّلات كبرى، لم تعد قوة الدول تُقاس بما تمتلكه من جيوش فحسب، بل بما تستطيع أن تصنعه، وبما تملكه من رؤية تُحوّل الأمن إلى محرك للتنمية، والردع إلى بوابة للازدهار.
ومن هنا، بدا افتتاح “إيديكس 2025” ليس مجرد معرض دفاعي، بل إعلانًا سياسيًا محسوبًا تُرسل عبره مصر رسالة واضحة:
أنها تعود بثقلها، وتعيد ترتيب موقعها، وتضع أمنها القومي في صميم مشروعها التنموي الشامل.
منذ اللحظة الأولى، كان المشهد مختلفًا؛
مصر لا تقف كطرفٍ متلقٍ للتكنولوجيا الدفاعية، بل كدولة تسعى إلى إعادة رسم خريطة قدراتها، عبر التوطين، والتصنيع، وبناء الشراكات التي تمنح القرار المصري استقلاليته.
ولذلك ارتفع حضور الشركات العالمية—الأميركية والأوروبية والآسيوية—ليس من أجل العرض فقط، بل لأنها ترى مصر فاعلًا إقليميًا يصعب تجاوزه في ظل حرب عالمية باردة تتجدد، وصراعات شرق المتوسط، وتوترات البحر الأحمر.
وما جرى داخل المعرض لم يكن ترويجًا للسلاح بقدر ما كان إعلانًا عن تحوّل في فلسفة الدولة:
فالجيش لم يعد مؤسسة للدفاع وحده، بل شريكًا في التنمية، ودرعًا يحمي مسار الدولة، وضامنًا لبيئة اقتصادية مستقرة في زمن تتسارع فيه الأزمات.
ولهذا تتجه مصر ليس لشراء المعدات فحسب، بل لبناء منظومات متكاملة تُنتج وتطوَّر محليًا، بما يقلّل الاعتماد على الخارج ويضمن استقرار القرار الاستراتيجي.
ومن بين السطور تظهر ملامح رؤية مصرية جديدة تعتمد على ثلاثة محاور رئيسية:
١— تعميق التصنيع العسكري المحلي لتقليل التبعية وامتلاك التكنولوجيا.
٢— تنويع الشراكات الدفاعية بحيث لا تعتمد القاهرة على محور واحد.
٣— ربط الأمن بالتنمية عبر جعل الصناعة الدفاعية قاطرة اقتصادية، لا بند إنفاق فحسب.
وتنسجم هذه الرؤية مع واقعٍ شديد الاضطراب حول مصر، من الجنوب المُلتهب، إلى تأثيرات الحرب في غزة، وصولًا إلى التغيرات الحادة في طرق الملاحة العالمية.
ومن هنا، بدا “إيديكس 2025” إعلانًا صامتًا بأن القاهرة لن تنتظر الأحداث، بل ستسبقها بخطوة، وتتحرك وفق رؤية تُدرك حجم المتغيرات، وتعي خطورة التأخر عنها.
ولا تقل دلالة الحضور الدولي الواسع أهمية عن مضمون المعرض ذاته؛
فهو اعتراف صريح بأن مصر استعادت موقعها كقوة توازن في الشرق الأوسط، وكدولة لها كلمة حاسمة في ملفات الطاقة والممرات البحرية والغاز، فضلًا عن دورها التقليدي في القضايا الفلسطينية والسودانية والليبية.
وهنا يتجاوز “إيديكس” كونه منصة لعرض السلاح إلى كونه اختبارًا لنضج الرؤية المصرية:
رؤية ترى أن أمن الدولة رافعة للتنمية، وأن الصناعة الدفاعية صناعة مستقبل، وأن ما سيُكتب في سجل الأعوام المقبلة سيحمل بصمة اللحظة التي قررت فيها مصر صناعة أدوات قوتها بدل استيرادها.
وإذا كانت الحضارات تُقاس بما تُنتجه لا بما تستهلكه، فإن مصر—صاحبة واحدة من أقدم حضارات الأرض—تعود اليوم إلى جوهر دورها الطبيعي:
دولة تصنع، وتبتكر، وتعيد ترتيب موازين الإقليم من موقع الفاعل لا المتفرج.
وفي الختام، فإن “إيديكس 2025” لا يقدّم مجرد عرض تكنولوجي، بل يقدم رسالة سياسية عميقة مفادها أن القاهرة تتقدم بثبات نحو إعادة هندسة موقعها، وأن أمنها القومي لم يعد جدار حماية فقط، بل منصة انطلاق نحو مشروع تنموي طويل المدى.
إنها لحظة تُعلن فيها مصر أنها لن تكتفي بمتابعة المشهد العالمي، بل ستشارك في صياغته، بروح دولةٍ تعرف قيمتها، وتدرك تاريخها، وتتحرك بثقة نحو مستقبل يليق بها.



