فن وثقافة
		
	
	
إيساف.. قراءة في أغنية “دايرة”: حين يغنّي الوجع صوتًا لا يطلب مجدًا ولا تريندًا
الكاتب والناقد الفني عمر ماهر

منذ اللحظة الأولى التي ظهر فيها الفنان إيساف كان واضحًا أنه من طراز مختلف، فنان لا يسعى للضوء بقدر ما يبحث عن المعنى، إنسان بدأ من الصفر، وشق طريقه في عالمٍ قاسٍ لا يرحم الحالمين.
امتلك موهبة استثنائية وصوتًا قادرًا على لمس القلب، ومع ذلك ظلّ حظه عاثرًا كأنه كُتب عليه أن يظل دائمًا في الظل رغم نوره.
مرّ بظروف قاسية، عرف الخذلان، وتذوّق مرارة التجاهل، لكنه لم ينكسر، لم يساوم، ولم يُبع نفسه كما يفعل الكثيرون حين يشتد الزحام ويبهت الحلم.
كان يستطيع أن يستغل ما مرّ به، أن يركب موجة الشهرة أو يُتاجر بوجعه، لكنه آثر أن يظل صادقًا، متمسكًا بمبادئه وباحترامه لفنه وجمهوره.
يؤمن أن الفن الحقيقي ليس في عدد المشاهدات ولا في تصدّر القوائم، بل في أن تُحبك الناس دون أن تشتري حبها، وأن تترك أثرًا لا يُمحى حتى لو غبت طويلًا.
إيساف لم يكن يومًا أسير التريند ولا عبدًا لبريق الشهرة، بل كان ابنًا حقيقيًا للموسيقى التي أحبها بصدق ووفاء.
حين يغيب، يغيب لأنه يتألم، وحين يعود، يعود برسالة.
هو الفنان الذي يُغنّي من جراحه، ويحوّل أوجاعه إلى نغمة حقيقية تصل إلى قلب من سمعوه ذات يوم وقالوا: هذا الصوت يُشبهنا.
في زمنٍ صارت فيه الشهرة تُشترى بثمن، ظلّ إيساف نقيًا، مؤمنًا أن محبة الناس هي الجائزة الوحيدة التي تستحق أن يعيش من أجلها الفنان .
ولعل أغنيته الأخيرة «دايرة» تجسيد صادق لهذه الرحلة الطويلة، أغنية لا تغنيها الشفاه فقط، بل تنزفها الروح، فيها فلسفة الوجع، وصدق الاعتراف، ونزف التجربة.
في «دايرة» يحكي إيساف عن كل ما عاناه إنسان يعيش وسط زيف العالم، يحكي عن المصلحة، والوحدة، والخذلان، وعن الصراع بين أن تبقى صادقًا وبين أن تتماشى مع ما يفرضه الواقع من تزييف.
ومن خلال كلماته نرى صورة فنان حقيقي يضع قلبه على المائدة، لا يخاف من العراء، ولا من أن يبدو ضعيفًا، لأنه يعلم أن الضعف في الفن صدق، وأن الصدق هو أسمى درجات القوة.
إيساف فنان لم يكن يومًا ابن الصدف، بل ابن الألم، ابن الحلم الذي لم يمت، والروح التي رغم ما لاقته، لم تفقد إنسانيتها.
هو الدليل أن الفن مازال قادرًا على أن يكون رسالة لا سلعة، وأن في زمنٍ خان فيه الفن أبناءه، مازال هناك من يختار أن يُغنّي بضمير.
في «دايرة» لا يُقدّم إيساف أغنية فحسب، بل يُقدّم نفسه من جديد، إنسانًا تعب، لكنه مازال يبتسم رغم الوجع، مؤمنًا أن الحب الصادق لا يموت، وأن محبة الناس هي المعجزة الوحيدة التي لم يخُنها القدر بعد.
تُعد أغنية «دايرة» للفنان إيساف واحدة من أكثر التجارب الغنائية جرأة وصدقًا في التعبير عن الاضطراب النفسي الذي يعيشه الإنسان الحديث، فهي ليست مجرد أغنية تُحكى أو تُغنّى، بل هي حالة فكرية وروحية تتجسّد فيها أزمة جيل كامل يبحث عن معنى الحياة وسط زحام الماديات وتناقضات الواقع.
منذ اللحظة الأولى حين يبدأ النص بـ«مصالح دايرة دماغ مشغولة»، نجد أنفسنا أمام مشهد ذهني ضبابي يعكس عالماً تتصارع فيه المصالح على حساب القيم، وتتحوّل العلاقات الإنسانية إلى صفقات مؤقتة، والطمأنينة إلى رفاهية نادرة.
الجملة الأولى وحدها كافية لتضع المستمع في قلب الدائرة النفسية التي لا تنتهي، حيث الفكر مثقل، والعقل دائم الحركة، والقلب في حالة استنفار دائم.
وفي البيت التالي «ماشي بكلم نفسي» يضعنا الشاعر في مواجهة الذات المجردة، الإنسان الذي لم يعد يجد من يصغي إليه سوى صوته الداخلي، وكأن الحوار بين النفس والنفس أصبح بديلًا عن التواصل الإنساني الحقيقي.
هذه الجملة تحمل دلالات فلسفية عميقة تتصل بما يُعرف في علم النفس الحديث بالاغتراب الذاتي؛ ذلك الشعور الغريب حين ينفصل الفرد عن ذاته فيصبح كأنه يشاهد نفسه من الخارج، عاجزًا عن السيطرة على أفكاره ومشاعره.
وفي قوله «ملقيتش الدنيا زي ما حكّوها» تكمن الصدمة الوجودية الأولى، تلك اللحظة التي يكتشف فيها الإنسان أن الواقع ليس بالضرورة امتدادًا للحكايات الجميلة التي تربّى عليها، وأن الحقيقة أكثر قسوة من الحلم.
هنا نلمح أثر التجربة وخبرة الألم، فالشاعر لا يصف فقط، بل يُعلن سقوط الوهم، كمن أفاق من نوم طويل ليجد نفسه في عالم بلا منطق.
أما قوله «الغدر طباع بيقدسوه خلّوني أشك حتى في نفسي» فيكشف عن انتقال الأزمة من مستوى الواقع إلى مستوى الذات، حيث لم يعد الشك موجّهًا نحو الآخرين فحسب، بل امتدّ ليشمل الأنا نفسها.
هذه النقلة في النص تُعد نقطة التحول الكبرى في البنية النفسية للأغنية، إذ يتحوّل البطل من كائن مخدوع إلى كائن مهزوز يبحث عن يقين مفقود.
الشك هنا ليس ضعفًا، بل هو لحظة وعي قاسية، لحظة إدراك أن الثقة المطلقة لم تعد صالحة في زمن تآكلت فيه القيم.
وحين يقول «بحاول أعمل السبوية مبقيتش سالك حتى لنفسي» تتجسّد مأساة الإنسان المعاصر في أبسط صورها، فالرغبة في الكسب والبقاء تُصبح الوسيلة الوحيدة للهروب من السقوط، ومع ذلك لا تأتي بالسلام النفسي، لأن المادية في ذاتها لا تشبع الروح.
هذه العبارة تُعيدنا إلى جدلية الصراع بين الروح والمادة، بين ما يريده الجسد وما تحتاجه النفس. فالبطل هنا لا يسعى للترف، بل للنجاة، ومع ذلك يشعر بالعجز عن الانسجام مع نفسه، وكأنه فقد البوصلة الداخلية التي كانت تقوده يومًا.
ثم يأتي بيت «قلبي مات والهم صاحبي» كذروة درامية تعبّر عن الانطفاء الكامل، فهو إعلان رمزي عن موت الإحساس، موت القدرة على الحب والتفاعل.
هذه الجملة تفتح بابًا للتحليل النفسي العميق، إذ تمثّل حالة الاكتئاب التام التي يصل إليها الإنسان بعد سلسلة طويلة من الخيبات.
القلب هنا لا يموت فعليًا، بل يتحجّر دفاعًا عن نفسه، والهمّ يصبح الرفيق الوحيد الذي لا يرحل.
ولعل في قوله «عاد شيطاني بيصبحني» تصويرًا بالغ الذكاء للحالة النفسية التي يعيشها البطل؛ إنه لا يقصد بالشيطان الشرّ المجرّد، بل يقصد الجزء المظلم من ذاته الذي صار أقرب إليه من أي إنسان.
إنه اعتراف ضمني بأن الخيانة والخذلان قد ولّدت في داخله نزعة عدوانية أو تمردًا على المنظومة كلها، في محاولة للتصالح مع الألم بطريقة مَرَضيّة.
ومع تقدّم النص، تزداد درجة السخرية السوداء، حين يصف واقعه بعبارات مثل «في إيدي كاس في كلب أنا معمي»، وهي صورة مجازية تجمع بين الفوضى والانكسار، بين محاولات اللهو والنسيان وبين التورط في مزيد من التيه.
لا يمكن قراءة هذه العبارات كتمجيد للعبث، بل كصرخة يأس من إنسان يحاول أن يخدّر واقعه بأفعال لا تؤدي إلا إلى تعميق الجرح. إنها لغة الإنسان الذي يدور في دائرة مغلقة من الهروب، حيث كل محاولة للراحة تلد وجعًا جديدًا.
أما في قوله «دنيا بتطمعني حب بيضيعني» فيتجلّى البعد الفلسفي للأغنية بوضوح.
البطل هنا يدرك أن الحب نفسه لم يعد خلاصًا، بل صار جزءًا من لعبة الطمع والاستغلال.
فالدنيا تُغريه بالمتعة العابرة، والحب يُفقده توازنه، والنتيجة أن كلاهما يستهلكه دون أن يمنحه معنى.
هذه الثنائية بين الطمع والضياع تُعيدنا إلى فلسفة “العدمية العاطفية”؛ أي الإيمان بأن المشاعر لم تعد تُنقذ، بل تُرهق.
وعندما يختتم الأغنية بعبارة «بعرف أسوقها لوحدي مبخصمش أنا بلغي وكله عمال يهري» نرى النهاية الوجودية للمسار النفسي الذي بدأه في أول الأغنية.
لقد تحوّل من إنسان يصرخ طلبًا للفهم إلى إنسان قرّر الانعزال الكامل، رافضًا المشاركة في ضوضاء العالم.
هنا لا يظهر الاستسلام، بل الوعي. فالوحدة لم تعد خوفًا، بل خيارًا دفاعيًا ضد الزيف.
إنه اكتشاف الحقيقة المرة: أن البقاء وحدك أحيانًا هو السبيل الوحيد للحفاظ على ما تبقى من اتزانك العقلي والروحي.
من الناحية الفنية، تأتي الأغنية بلحن متوازن بين الإيقاع الحديث والحالة الدرامية، يُذكّرنا بأسلوب “الراب الوجداني”، حيث تمتزج الحكاية باللحن دون فواصل واضحة.
الأداء الصوتي لإيساف يتجاوز فكرة الغناء التقليدي إلى ما يشبه البوح الحر، فهو لا يؤدي دورًا، بل يعيش الحالة كأنه يحاور نفسه أمام الجمهور.
هذا الصدق هو ما جعل الأغنية تلمس المستمع مباشرة دون وساطة، لأن الألم الحقيقي لا يحتاج إلى تزيين موسيقي أو تقنيات صوتية مبالغ فيها.
من الناحية النقدية، يمكن القول إن «دايرة» تمثّل نقطة تحوّل في مسيرة إيساف الفنية، لأنها تخرج به من دائرة الأغنية الرومانسية المعتادة إلى عالم أكثر جرأة وصدقًا، عالم الإنسان المجرّد من الزخارف، الباحث عن ذاته وسط الفوضى.
إنها تجربة تجمع بين الفن والفلسفة، بين البوح النفسي والنقد الاجتماعي. وربما تكمن قيمتها الكبرى في أنها استطاعت أن تنقل الوجع بلغة الشارع دون أن تفقد عمقها الإنساني.
إن «دايرة» ليست مجرد أغنية، بل مرآة لواقعٍ يتألم فيه الجميع بصمت. هي حكاية كل إنسان حاصرته الدائرة ذاتها، دائرة الخداع، والضغط، والوحدة، فصار يدور حول نفسه بحثًا عن مخرج.
ومع أن الأغنية لا تقدّم حلًا، إلا أنها تقدّم شيئًا أثمن: الاعتراف. والاعتراف أول خطوة في طريق الخلاص.
تُعد أغنية «دايرة» انعكاسًا صادقًا لحالة الإنسان المصري والعربي في زمن تتصارع فيه المتغيرات بسرعة تفوق قدرة الوجدان على الاستيعاب.
فهي تُجسّد لحظة وعي جيل يعيش تحت ضغط التناقضات؛ بين الرغبة في تحقيق الذات والخوف من الانكسار، بين الحاجة إلى الحب والاضطرار إلى المصلحة، بين الوعي الجماعي الزائف والبحث الفردي عن الحقيقة.
فالمجتمع المعاصر ــ بما يحمله من تحديات اقتصادية واجتماعية ــ لم يعد يمنح الإنسان مساحة كافية للتأمل أو الهدوء، بل يدفعه إلى الركض الدائم في دائرة مغلقة من السعي واللهاث.
وإيساف هنا لا يغني عن نفسه فقط، بل عن جيل كامل يشعر بالتيه والاغتراب، جيل يرى في “السبوبة” وسيلة للبقاء، وفي الوحدة خلاصًا من الزيف، وفي الغضب وسيلة للتنفيس عن الإحباطات المتراكمة.
إن النص الغنائي في جوهره يعكس الصراع النفسي الناتج عن فقدان المعنى في مجتمع مادي يتغذّى على السرعة والمظاهر، حيث تحوّلت القيم إلى أدوات، والمشاعر إلى استهلاك مؤقت، والحب إلى معادلة غير متكافئة بين القلب والمصلحة.
 
				 
					


