
في توقيت بالغ الحساسية، تتداول تقارير وتحركات سياسية عن اتجاه إسرائيل للاعتراف بأرض الصومال، في خطوة إن تمت رسميًا ستفتح أبوابًا واسعة للتوتر في واحدة من أكثر مناطق العالم هشاشة: القرن الإفريقي.
خطوة لا يمكن قراءتها بمعزل عن صراعات النفوذ الدولي، ولا عن الأمن القومي العربي والإفريقي، وعلى رأسه الأمن القومي المصري.
يأتي هذا التحرك في لحظة تتشابك فيها عدة أزمات كبرى: اضطراب الملاحة في البحر الأحمر وباب المندب ، تصاعد التنافس الدولي على النفوذ في شرق إفريقيا ، استمرار الضغوط المرتبطة بملف مياه النيل وسد النهضة.
في هذا السياق، يبدو التوقيت مدروسًا بعناية، حيث تسعى إسرائيل وفق رؤية استراتيجية قديمة إلى توسيع حضورها في محيط عربي إفريقي شديد الحساسية، مستفيدة من فراغات سياسية وصراعات داخلية في بعض الدول.
الاعتراف بأرض الصومال وهي إقليم انفصالي لم يحظَ باعتراف دولي منذ إعلانه الانفصال عن الصومال عام 1991 لا يمثل مجرد خطوة دبلوماسية، بل يحمل أبعادًا أخطر، أبرزها: تشجيع النزعات الانفصالية داخل الدول الإفريقية، بما يهدد وحدة كيانات وطنية قائمة.
إعادة رسم خرائط النفوذ في منطقة تطل على واحد من أهم الممرات الملاحية في العالم ، إيجاد موطئ قدم استخباراتي أو عسكري محتمل بالقرب من باب المندب وخطوط التجارة العالمية.
الخطر لا يقتصر على الصومال أو إفريقيا وحدها، بل يمتد مباشرة إلى العالم العربي، خاصة:أمن البحر الأحمر، الذي يمثل شريانًا حيويًا للتجارة المصرية وقناة السويس ، الضغط غير المباشر على مصر في ملفات استراتيجية، أهمها مياه النيل، عبر تطويقها من الجنوب والشرق ، خلق واقع إقليمي جديد يتيح لإسرائيل لعب أدوار تتجاوز حدودها الجغرافية التقليدية.
من هنا، فإن أي تغيير في ميزان القوى بالقرن الإفريقي يُعد مساسًا مباشرًا بالأمن القومي المصري.
القاهرة لم تقف موقف المتفرج، بل تحركت وفق نهجها المعتاد: الهدوء المصحوب بالحزم. ومن أبرز الخطوات: تعزيز العلاقات مع الصومال الفيدرالية والتأكيد على وحدة أراضيه ، تكثيف التنسيق مع الدول الإفريقية والعربية الرافضة لأي مساس بسيادة الدول ، توسيع الحضور الدبلوماسي والأمني المصري في القرن الإفريقي، بما يحقق التوازن ويمنع فرض أمر واقع جديد.
من المرجح أن تتجه مصر إلى: تصعيد دبلوماسي منظم داخل الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة ، بناء جبهة إقليمية رافضة للاعتراف بالكيانات الانفصالية ، تعزيز الشراكات الاقتصادية والأمنية مع دول البحر الأحمر والقرن الإفريقي ، التأكيد على أن أمن البحر الأحمر خط أحمر لا يقبل المغامرة أو العبث.
ما يجري ليس مجرد اعتراف سياسي عابر، بل محاولة لإعادة هندسة المنطقة على أسس تخدم مصالح قوى بعينها، دون اعتبار لاستقرار الشعوب أو وحدة الدول .
خطورة هذا المسار تكمن في أنه يفتح شهية الانفصال، ويحوّل الصراعات المحلية إلى أزمات إقليمية ممتدة.
مصر، بتاريخها وخبرتها، تدرك أن المعركة هنا ليست معركة تصريحات، بل معركة وعي وتحالفات وتوازنات.
والرسالة الأهم: القرن الإفريقي ليس ساحة مفتوحة للتجارب السياسية، وأي عبث باستقراره سيدفع الجميع ثمنه، عاجلًا أو آجلًا.
في النهاية، تبقى الحقيقة الثابتة أن أمن إفريقيا من أمن العرب، وأمن البحر الأحمر من أمن مصر… ومن لا يقرأ الجغرافيا جيدًا، يدفع ثمن السياسة مضاعفًا.



