لم يشهد التاريخ البشري طفرة كالتي نعيشها اليوم العالم صار قرية صغيرة بالفعل بل صار شاشة صغيرة نضعها في جيوبنا بضغطة زر نصل إلى أبعد مكان نعرف اخر أخبار العالم في لحظة نبيع ونشتري ونتعلم ونعمل دون أن نغادر مقاعدنا إنها ثورة تكنولوجية مذهلة لا يمكن إنكار فضلها في تسهيل الحياة وتسريع الإيقاع
لكن هل الحياة حقًا صارت أفضل؟
هنا تكمن المفارقة المؤلمة
التكنولوجيا لم تأتِ وحدها بل حملت معها تحديات خطيرة تمسّ جوهر الإنسان ومعناه صرنا أسرى للشاشات أكثر من كوننا أحرارًا في خياراتنا صارت العلاقات إنسانية الشكل افتراضية المضمون صارت المشاعر مختزلة في رموز صفراء والأحلام مؤطرة داخل خانات رقمية والنجاحات تُقاس بعدد الإعجابات والمتابعين لا بما يضيفه المرء إلى مجتمعه ووطنه
لقد أنتجت لنا التكنولوجيا جيلًا يعرف كيف يتواصل مع العالم لكنه يفتقد القدرة على التواصل مع نفسه جيلًا يجلس في الغرف المزدحمة بالأجهزة لكنه يعيش عزلة صامتة جيلًا يتباهى بسرعة الإنترنت لكنه يفتقر لبطء اللحظة الإنسانية ضحكة صادقة جلسة عائلية بلا مقاطعة من هاتف نظرة حب غير موثقة بعدسة كاميرا
إن أخطر ما نواجهه ليس ضياع الوقت أمام الشاشات بل ضياع المعنى الإنسان خُلق ليبحث عن هدف عن رسالة عن قيمة تترك أثرًا يتجاوز اللحظة وإذا تحوّل الوجود إلى سباق استهلاك وتصفح فإننا نخسر جوهر إنسانيتنا مهما كانت التقنية مذهلة
الحل ليس في رفض التكنولوجيا أو محاربتها فهذا وهم مستحيل الحل في إعادة التوازن أن نستفيد من التقنية كوسيلة لا أن نستسلم لها كغاية أن نستخدمها لتقوية معارفنا لا لتدمير عقولنا أن نجعلها جسرًا للتواصل الحقيقي لا جدارًا يفصل بيننا
لقد آن الأوان أن نعيد اكتشاف أبسط حقائق الحياة أن السعادة لا تأتي من إشعارات الهاتف بل من دفء إنساني صادق أن القيمة لا تُقاس بعدد المتابعين بل بما نتركه من بصمة في حياة من حولنا وأن المستقبل لن يكون ملكًا لمن يملك أحدث الأجهزة بل لمن يحافظ على إنسانيته في عالم متسارع لا يرحم
فلنسأل أنفسنا بصدق:
هل نعيش التكنولوجيا… أم نسمح لها أن تعيشنا؟
الجواب سيحدد شكل إنساننا القادم ومصير حضارتنا كلها.
