
كتبها لكم /سيف محمد كامل
الفصل الرابع: الحافة
كان مع كل خطوة يخطوها المحقق رائد، كان يقترب أكثر من الحقيقة، لكنه في نفس الوقت كان يبتعد أكثر عن نفسه، القاتل الذي كان يتعامل مع الأدب كأداة ووسيلة لخلق رسائل فلسفية، كان يبدو كأنه يشد رائد نحو هاوية من الشكوك والتساؤلات، حيث لا يوجد إجابات واضحة كانت الجرائم تتوالى، والأدلة تتكاثر، لكن الحقيقة كانت لا تزال ضبابية أما الرأي العام فكان يعج بالشكوك، وضغط الإعلام كان يزداد يوما بعد يوم الناس كانوا يطالبون بتحقيق سريع، لكن كان كل شيء في التحقيق يتباطأ، ويبدو أن القاتل أصبح يسبقهم بخطوة دائمًا.
عندما وصل رائد إلى المكتب صباحًا، كان يلاحظ بعض الأوجه المتعبة على وجوه أعضاء فريقه رغم أنهم كانوا يعملون بلا كلل، إلا أن المحقق كان يشعر بشيء من التوتر الذي يتراكم على قلبه كانت الأيام تمر بسرعة، وكان كل يوم يجلب معه جريمة جديدة وملامح غريبة للقضية.
في اليوم التالي، وصل فريق التحقيق إلى مسرح جريمة جديدة في الجيزة كانت الجريمة الرابعة عشرة، والقاتل كان قد اختار هذه المرة ضحية غير متوقعة: دكتور فايز حسن، أستاذ جامعي ومؤلف معروف في مجال الفلسفة كان قد نُشرت له مؤلفات عن الأخلاق والعدالة التي كان يناقش فيها الصراع بين الحق والباطل كانت جريمة مروعة، حيث تم العثور على جثة الدكتور فايز في مكتبه، وقد كانت حروف “العدالة” مكتوبة بالدم على جدار الغرفة.
لكن أكثر ما لفت انتباه رائد، كان وجود نسخة من كتاب “الأنظمة الفلسفية” على المكتب، وهي مؤلف آخر له علاقة مباشرة بالأفكار التي كان الدكتور فايز يناقشها في محاضراته الكتاب كان مليئًا بالتعليقات والملاحظات المكتوبة بخط اليد، ونصوص تم انتقاءها بعناية.
قال رائد وهو يقف أمام المكتب ويشاهد الأدلة: “القاتل هنا يتعامل مع الفكر كما يتعامل مع الجريمة.
هو يعيد تشكيل نظريات العدالة التي يتعاطى معها، يفرض رؤيته الخاصة للعالم.”
كريم، الذي كان يراقب رائد وهو يتأمل الأدلة، أضاف قائلاً: “القاتل بدأ يتحول إلى شخص أيديولوجي، يريد نشر أفكاره بالقوة لا يتعلق الأمر فقط بالقتل، بل يتعلق بتحقيق نوع من الفوضى الفكرية.”
“يبدو أنه في كل جريمة، لا يقتل فقط الجسد، بل يقتل أفكارًا، فلسفات…” قال رائد وهو يطوي دفتر الملاحظات الذي كان قد جمعه، “لا نواجه قاتلًا عاديًا هذا ليس مجرد مجرم، هذا شخص يناضل من أجل فكرة.”
بينما كان رائد يتحدث مع كريم، مرّ المحقق غسان، مساعد رائد، وهمس في أذنه قائلاً: “رائد، هناك شيء غريب تحققنا من هوية الدكتور فايز في قاعدة البيانات، وتبين أنه كان يتواصل مع مجموعة من الأكاديميين خارج مصر حول فلسفة الجريمة قد يكون هناك ارتباط بينه وبين القاتل يبدو أن القاتل كان يراقب الدكتور فايز لفترة طويلة، وكان يعرف بالضبط ماذا يكتب.”
“أنت متأكد؟” سأل رائد، وألقى نظرة على غسان “هل هناك أي معلومات عن هذه المجموعة؟”
غسان أومأ وقال: “نعم، لقد تم التحقيق فيهم مسبقًا لكن لا توجد أي دلائل واضحة تشير إلى تورطهم لكن هذه التفاصيل قد تساعدنا في فهم الطريقة التي يفكر بها القاتل.”
في هذه اللحظة، كانت الجريمة الأخيرة قد زادت الوضع تعقيدًا.
رائد شعر بأن كل خطوة يخطوها تأخذه إلى زاوية مظلمة أكثر كان يشك في نفسه وفي قراراته القاتل كان يتلاعب بالعالم الفكري، وكان يخلق أحداثًا تتناسب مع فلسفته الشخصية.
الهروب إلى الظلال
في الوقت الذي كان المحقق رائد يعمل جاهدًا لإيجاد الرابط بين ضحاياه، كانت تطورات جديدة تطرأ على التحقيقات الضغوط الإعلامية بلغت ذروتها، وكانت الحكومة تحت نيران الانتقادات بسبب ارتفاع عدد الضحايا المواطنون بدأوا يوجهون اللوم للسلطات، متهمين إياها بعدم الكفاءة في التعامل مع القاتل. مع كل يوم يمر، كانت القصة تزداد تعقيدًا، الأدلة كانت تؤدي إلى طريق مسدود، لكن لا شيء كان واضحًا تمامًا.
وفي خضم هذه الضغوط، كان رائد يجد نفسه في حيرة تامة القاتل كان يتحدث بلغة الأدب والفلسفة، وكان كل ضحية بمثابة خطوة جديدة في لعبة فكرية لا نهاية لها، حاول رائد أن يتنفس بعمق، لكنه لم يستطع التخلص من الشعور بأن القاتل كان يراقبهم، يراقب تحركاتهم.
“أنت ماذا تعرف عن القاتل؟” سأل رائد غسان فجأة، وهو يحدق فيه باهتمام.
غسان كان يحاول فهم السؤال، فأجاب قائلاً: “القاتل ليس مجرد شخص مجنون، رائد هو شخص يستخدم أفكارًا فلسفية في اختياره لضحاياه يمكنه أن يتحول إلى شخصية فلسفية، ليصبح مثقفًا يقود لعبة فكرية نحن نتعامل مع شخص يستطيع فهم كيف يفكر الآخرون، كيف يربط الأيديولوجيات بالجريمة.”
رائد كان يفكر، ولاحظ أن غسان على صواب “نعم، ولكن هناك شيء آخر لماذا لا يتبع القاتل النمط ذاته في كل مرة؟ لماذا يترك رسائل مختلفة؟ في بعض الجرائم يكتب عن العدالة، وفي البعض الآخر عن الأخلاق، ربما يكون لديه أكثر من فلسفة واحدة في ذهنه.”
وفي هذه اللحظة، شعر رائد بحركة غريبة في قلبه ربما كان القاتل يعكس كل فلسفة أو مبدأ شخصي كان يؤمن به، وربما كان ينتقد نظام العدالة بأسلوبه الخاص كان رائد يعتقد أنه قد فهم مغزى الرسائل، ولكن ما زال يواجه اللغز الأكبر: لماذا لا يتوقف القاتل؟
في الوقت الذي كان يتأمل فيه، وقع حدث غريب في الزمان والمكان الذي لم يكن يتوقعه، اكتشف أن القاتل كان يخطط لشيء أكثر من جريمة. كان يريد أن يترك الجميع في حالة من الصدمة الشديدة. ولكن لماذا الآن؟ ولماذا هذا؟ الإجابات كانت تتراكم، ولكن كانت لا تزال بعيدة المنال.
بين الشكوك والحقائق
بينما كان رائد يواصل التحقيق في خيوط القضية، كان يشعر أن الوقت ينفد القاتل كان يسبقهم دائمًا، وها هو يصل إلى نقطة جديدة في اللعبة، قرر رائد أن يأخذ زمام المبادرة، وأن يتنقل بين الأدلة، محاولًا أن يكتشف المزيد حول القاتل الذي كان يعيش في الظلال، يختبئ وراء أفكار فلسفية، ودماء ضحاياه.
كان قد بدأ يشعر أن هذه اللعبة ربما تكون أكبر منه.