
في توقيت إقليمي بالغ الحساسية، جاءت زيارة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني، إلى القاهرة، لتؤكد أن العلاقات المصرية السودانية لا تزال أحد أعمدة الاستقرار في وادي النيل، وأن مصر حاضرة بقوة في معادلة الأزمة السودانية، ليس بوصفها طرفًا، بل كضامن لوحدة الدولة السودانية وأمنها القومي.
لم تكن زيارة البرهان لمصر زيارة مجاملة أو بروتوكول سياسي عابر، بل حملت في طياتها أبعادًا استراتيجية واضحة ، فالملف السوداني يمر بمرحلة شديدة التعقيد، مع استمرار الصراع الداخلي، وتنامي التدخلات الخارجية، ومحاولات تفكيك مؤسسات الدولة السودانية.
القاهرة، بحكم الجغرافيا والتاريخ والمصير المشترك، تُعد أكثر العواصم إدراكًا لخطورة انهيار السودان، ليس فقط على شعبه، بل على أمن المنطقة بأكملها، وخاصة الأمن القومي المصري.
خلال اللقاءات التي جرت في القاهرة، بعثت مصر برسائل واضحة وصريحة يمكن تلخيصها في عدة خطوط حمراء:
أولًا، وحدة السودان خط أحمر، ورفض قاطع لأي سيناريوهات تقسيم أو تفكيك الدولة تحت أي مسمى.
ثانيًا، رفض الميليشيات والسلاح خارج إطار الدولة، والتأكيد على ضرورة استعادة مؤسسات الدولة السودانية لدورها الكامل.
ثالثًا، لا للتدخلات الأجنبية التي تسعى لتحويل السودان إلى ساحة صراع بالوكالة أو منصة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية.
رابعًا، الحفاظ على الجيش السوداني كمؤسسة وطنية جامعة تمثل العمود الفقري لبقاء الدولة.
هذه الثوابت لم تكن جديدة، لكنها جاءت هذه المرة أكثر وضوحًا وحسمًا، في ظل محاولات إعادة رسم خريطة النفوذ في السودان.
تكتسب زيارة البرهان أهميتها من كونها تؤكد استمرار التنسيق السياسي والأمني بين القاهرة والخرطوم، وتفتح المجال أمام دور مصري فاعل في دعم المسار السياسي الذي يفضي إلى إنهاء الصراع، دون فرض حلول من الخارج.
كما تعكس الزيارة إدراك القيادة السودانية لأهمية الدور المصري كوسيط نزيه، قادر على التواصل مع مختلف الأطراف، بعيدًا عن الأجندات الخفية.
لم تكن رسائل الزيارة موجهة للداخل السوداني فقط، بل امتدت إلى الإقليم والعالم.
الرسالة الأولى: أن مصر لن تقف متفرجة على محاولات العبث بالسودان.
الرسالة الثانية: أن أمن السودان جزء لا يتجزأ من أمن مصر.
الرسالة الثالثة: أن الحل السياسي يجب أن يكون سودانيًا خالصًا، مدعومًا إقليميًا، لا مفروضًا دوليًا.
برأيي، تمثل زيارة البرهان لمصر محطة مفصلية في مسار الأزمة السودانية، وتكشف بوضوح أن القاهرة اختارت الاصطفاف مع الدولة السودانية، لا مع أطراف الصراع.
مصر تدرك أن سقوط السودان يعني فتح أبواب الفوضى على مصراعيها في المنطقة، لذلك تتحرك وفق منطق الدولة والمسؤولية التاريخية، واضعة خطوطًا حمراء لا تسمح بتجاوزها.
الكرة الآن في ملعب القوى السودانية، فإما الالتفاف حول مشروع الدولة، أو الاستمرار في صراع لن يخرج منه أحد منتصرًا، سوى أعداء السودان.



