
لم تعد الأزمة التي يعيشها المجتمع اليوم أزمة سلوك عابرة، بل تحولت إلى ظاهرة انفلات أخلاقي تهدد بنيان الأسرة والمجتمع معًا، وتكاد تعصف بجذور منظومة القيم التي كانت تميزنا. فجيل اليوم، أطفالًا وشبابًا، يعيش في زمن اختلطت فيه المفاهيم، وغابت فيه القدوة، وتراجع فيه الدور التربوي للأركان الثلاثة التي كانت فيما مضى تصنع الإنسان المتوازن: الأسرة، والمدرسة، والمسجد.
🏠 المحور الأول: الأسرة… اللبنة الأولى
الأسرة هي الحاضنة الأولى للطفل، وفيها تتشكل ملامح شخصيته الأولى، وتُغرس بذور القيم والضمير.
لكن حين غاب الحوار داخل البيوت، وحلت الشاشات محلّ الأحاديث، وفقد الآباء والأمهات صبرهم على أبنائهم، بدأ الانحدار.
كثير من الأسر تركت أبناءها فريسةً لمواقع التواصل، يتلقون منهجهم الأخلاقي من المؤثرين، لا من المربين.
لقد أصبح الابن كالوعاء الفارغ، إن لم تملأه أنت بالصواب، ملأه غيرك بالخطأ.
وإن لم تُشبعه بالقيم، أشبعه الإعلام بالسطحية والتمرد.
وهنا تبدأ أولى حلقات الانفلات… من البيت.
🏫 المحور الثاني: المدرسة… حين غابت القدوة
في الماضي، كان المعلم هو الأب الثاني، صوته يحيا في الوجدان، وهيبته تزرع الانضباط قبل أن تزرع المعرفة.
أما اليوم، فضعف مكانة المعلم، وضياع هيبته وسط فوضى التعليم، جعلا المدرسة تفقد دورها التربوي.
لم تعد المدرسة تغرس القيم كما كانت، بل صارت – في كثير من الأحيان – مجرد مؤسسة للدرجات والشهادات، لا للتربية والتكوين.
وحين يرى الطالب معلمه مُهمشًا، ومهنته بلا تقدير، يفقد احترامه لكل سلطة تربوية، ويُصاب بانفصال عن مفهوم الالتزام.
المحور الثالث: المسجد… صوت الإرشاد الغائب
كان المسجد مدرسة القيم، ومحراب الوعي، ومصدر النور الروحي الذي يُهذب السلوك.
لكن حين تقلص دوره، أو حُصر في خُطب جامدة لا تلامس واقع الشباب، فقد جيله الجديد صلته بالموعظة الصادقة.
فأصبح الدين بالنسبة لكثيرين شكلاً بلا مضمون، وشعارًا بلا سلوك.
المطلوب اليوم خطاب ديني تربوي يجدد المعنى، ويربط العبادة بالأخلاق، والإيمان بالسلوك اليومي.
⚠️ النتيجة: جيل بلا بوصلة
إن تراجع هذه الأدوار مجتمعة خلق فراغًا خطيرًا ملأته ثقافة التقليد الأعمى للأقران والمشاهير،
فصار المظهر أهم من الجوهر، والمادة أقوى من القيمة، والسطحية تغلب على الفكر.
جيل يتلقى مفاهيمه من “الترند”، لا من الضمير،
ويبحث عن ذاته في الإعجابات والمتابعات، لا في العلم والعمل.
الخلاصة: إحياء الوعي قبل فوات الأوان
التربية ليست شعارًا، بل مسؤولية متكاملة تبدأ من البيت قلبًا، والمدرسة عقلًا، والمسجد روحًا.
ولا يمكن بناء أجيال سوية ما لم تتحد هذه المؤسسات الثلاث على منهج قيمي واضح يزرع في الطفل احترام نفسه، وحب وطنه، وخشية ربه.
فالتربية ليست أن نُطعم أبناءنا ونُلبسهم، بل أن نحفظ لهم إنسانيتهم.
وإنقاذ جيل اليوم لن يكون إلا بإعادة الوعي لكل من نسي أن الأبوة رسالة، والتعليم أمانة، والدين سلوك قبل أن يكون شعائر.
لقد وصلنا إلى مرحلة لم يعد الصمت فيها ترفًا، ولا التغافل خيارًا. ما نراه من انفلاتٍ أخلاقي، وانهيارٍ قيمي، وتمردٍ سلوكي عند بعض أبناء هذا الجيل ليس سوى فاتورة تأخرنا في أداء واجبنا التربوي.
فالأسرة حين غابت، والمدرسة حين تخلّت، والمسجد حين أُقصي، تركنا أبناءنا يواجهون العالم وحدهم… فسبقَتنا المؤثرات الفاسدة، وكتبت فيهم ما كان يجب أن نكتبه نحن.
ولنكن واضحين:
لا يُصلح الجيل كلامٌ مرسل، ولا وعظٌ عابر، ولا تعليمٌ بلا قدوة.
الأب الذي لا يحضر، والأم التي لا تتابع، والمعلّم الذي لا يربي، والخطيب الذي لا يلامس واقع الناس… كلهم يشتركون، بقصد أو بغير قصد، في أزمة الأخلاق التي نشتكي منها.
ومع ذلك، لا يزال الباب مفتوحًا…
لكن ليس إلى الأبد.
البداية الحقيقية تكون من البيت؛
من أبٍ يضبط، وأمٍّ تهتم، وقدوةٍ لا تسقط.
ثم من مدرسةٍ تستعيد هيبتها،
ومسجدٍ يعود دوره كما كان نورًا وهدايةً لا ديكورًا وصورة.
وعلينا أن ندرك — قبل أن يفوت الوقت — أن الأبناء أوعية:
إن لم نملأها نحن بالحق، امتلأت بغيره من الباطل.
وإن لم نبنِ شخصية هذا الجيل، بنته أيادٍ لا ترحم ولا ترعى.
إنقاذ القيم لا يتحقق بالرجاء، بل بالفعل.
والتربية ليست خيارًا…
بل معركة يومية لا بد أن ننتصر فيها…. انتظرونا فى تفاصيل أكثر لدور كل من الأسرة والمدرسة والمسجد على حده



