صحف وتقارير

“الشاشة السوداء: حين تنهش الشبكات روابط البيت المصري”

أشرف ماهر ضلع 

لم يعد الخطر الذي يهدد الأسرة المصرية قادمًا من الفقر، ولا من الجهل، ولا حتى من التقاليد البالية، بل من داخل الجيب. من شاشة صغيرة تضيء الظلام، لكنها تطفئ ما بين القلوب من دفء. في زمنٍ باتت فيه الأصابع تهمس أكثر من الشفاه، وتصبح العيون معلقةً في لمعان زائف بدلًا من النظر في عيون الأحبّة، صار البيت — ذلك المعبد الأول للإنسان — ساحةً لفرقةٍ صامتة، لا يُسمع فيها سوى نقرات الإعجاب، وهمسات التنزيل، وأصوات الإشعارات التي تسبق حتى صوت الأم حين تنادي.

 

وسائل التواصل الاجتماعي، التي وُعدنا أنها جسرٌ للتقارب، صارت سدًّا بين الأرواح. لم تكن المشكلة في التكنولوجيا ذاتها، بل في كيف استسلمت الأسرة المصرية — ببراءةٍ أو تهاون — لسطوتها، فاستبدلت العناق بالإيموجي، والحديث بالرسائل المختصرة، واللقاء الحقيقي بالاستوري المصوّر.

 

من «السُّدّة» إلى «الاستوري»: تحولٌ قسري في ثقافة اللقاء

 

في مصر، حيث كان الفناء أو «السُّدّة» مسرحًا يوميًا للقاءات العفوية، والهمسات تحت ظل الشجرة، لم تكد تمضي عقود قليلة حتى غدت الغرفة ذاتها ميدانًا لانفصالٍ افتراضي صامت. لم يعد الجدّ يروي حكاياته، بل يتصفح صورًا قديمة على «فيسبوك». لم تعد الجدة تعلّم حفيدتها فنّ التطريز، بل تنظر إليها وهي تقلّد «إنفلوسترز» على «تيك توك». لم يعد الابن يسأل أباه عن رأيه في قرار مصيري، بل يبحث عنه في «رييلز» مدته 15 ثانية.

 

هنا لا نُحمّل الشبكات ذاتها الذنب، فهي أدواتٌ محايدة، لكننا نُسائل الاستخدام العبثي لها، ذلك الذي حوّل الأسرة من كيانٍ عضويٍّ حيّ إلى مجموعةٍ من «البروفايلات» التي تتقاسم سقفًا واحدًا دون أن تتقاسم نفس الهمّ أو الوجدان.

 

التفكك الصامت: حين يصير الحضور غيابًا

 

أحد أخطر مظاهر انهيار الأسرة في العصر الرقمي ليس الخلاف الصاخب، بل الانفصال الهادئ. ذلك المشهد المتكرر في المقاهي أو حتى في غرف المعيشة: أب وأم وطفلان، كلٌّ منهم منكّسٌ برأسه في شاشته، لا كلام، لا عناق، لا حتى نظرة عابرة. البيت يصير كيانًا جغرافيًا فحسب، لا عاطفيًا. والرابطة التي كانت تُبنى على التفاعل اليومي، والتعاطف الحسي، والاستماع الحقيقي، تذبل رويدًا رويدًا تحت وطأة «اللاوجود الرقمي».

 

وإذا أردنا أن نكون صريحين، فالشبكات الاجتماعية لم تُخلق لتدمير الأسر، بل لتعزيز التواصل، لكنّ ما حدث في السياق المصري — كغيره من السياقات — هو انقلابٌ في الوظيفة. فالرسالة التي كان يكتبها الابن لأمه في دفتر مدرسي صار يكتبها في تعليق ساخر تحت صورة «مييم» لا علاقة له بالحياة الواقعية. والعناق الذي كان يداوي جرحًا صار يُستبدل بـ«إيموجي قلب». والسؤال الذي كان يُطرح بصوتٍ خافت: «هل أنتِ بخير يا أمي؟»، صار يُطرح عبر استوري عامّ لا يحمل سوى سطحية التمثيل.

 

بين الوهم والواقع: الأسرة المُعاد تمثيلها

 

ثمة ظاهرة بالغة الخطورة تفشت في السنوات الأخيرة: **تمثيل الأسرة السعيدة** على وسائل التواصل. فبينما يعاني البيت من خلافاتٍ عميقة، أو برودٍ عاطفي، أو حتى عنفٍ نفسي، نرى صورةً مُضيئةً على «إنستغرام» تظهر فيها العائلة بملابس متناسقة، تبتسم ابتساماتٍ مصطنعة، كأنها في إعلانٍ ترويجي. هذا التناقض بين الصورة والواقع لا يُغري بالمصالحة، بل يعمّق الجرح، ويُشعر الأبناء بأنهم يعيشون حياةً مزيفة، في حين أن أقرانهم «على السوشيال» يعيشون في عالمٍ من المرح والانسجام.

 

والأدهى من ذلك أنّ بعض الآباء والأمهات صاروا يقيسون نجاحهم الأسري بعدد «اللايكات» و«الشيرات»، لا بعدد الحوارات العميقة أو اللحظات المشتركة التي لا تُوثّق بالصور، بل تُنقش في الوجدان.

 

لكن… هل كلُّ الأمل ضاع؟

 

لا. فالأزمة ليست في الشبكات، بل في الاستخدام. فكما أنّ السكين قد تُستخدم لتقطيع الخبز أو لجرح الجسد، كذلك وسائل التواصل قد تقرب القلوب أو تُبعدها. والبديل ليس قطع الاتصال بالعالم الرقمي، بل إعادة تأهيل العلاقة الأسرية في ظلّه.

 

الحلّ يبدأ من لحظاتٍ بسيطة: عشاءٌ بلا هواتف، حوارٌ قبل النوم دون شاشات، قراءةٌ جماعية، أو حتى لعبةٌ عائلية قديمة. الحلّ في أن نُعيد تعريف «الرقي» ليس بالكمّ الهائل من المتابعين، بل بعمق العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة.

 

العودة إلى الجوهر

 

البيت المصري، بتراثه العريق، وقيمه الإنسانية، وروابطه الدافئة، لا يمكن أن يُهزم بسهولة. لكنّه يحتاج — اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى — إلى وقفةٍ صادقة من كل فردٍ فيه. فوسائل التواصل ليست عدوّة، بل مرآة. وما نراه فيها ليس سوى انعكاسٌ لما نسمح له أن يحدث خلف الأبواب المغلقة.

 

فهل نسمح لأنفسنا أن نعود، ولو قليلاً، إلى زمنٍ كان الحضور فيه معنى، لا مجرد حضور جسدي؟

 

هل نجرؤ على أن نطفئ الشاشات، ونُضيء وجوه بعضنا بعضاً؟

 

لعلّ في ذلك بدايةُ الخلاص.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock