
في عالمنا المليء بالتحديات اليومية والأحداث الصادمة، تظل النفس البشرية كياناً معقداً يسعى دائماً للبحث عن التوازن. لكن أحياناً، وعندما تعجز الأدوات الدفاعية الطبيعية للعقل عن مواجهة ضغوط أو صدمات نفسية قاسية، قد يختار الإنسان – دون وعي – العودة إلى الوراء. هذه العودة ليست إلى الماضي بالمعنى الزمني، بل إلى مراحل عمرية سابقة كان يشعر فيها بالأمان والاستقرار النفسي، وهي ما يُعرف في علم النفس بمفهوم النكوص (Regression).
النكوص كآلية دفاعية
النكوص ليس مرضاً نفسياً في ذاته، بل هو آلية دفاعية لا شعورية يلجأ إليها العقل البشري للهروب من وطأة الحاضر. فالشخص الذي يتعرض لخبرة مؤلمة أو ضغط نفسي هائل قد يجد نفسه يتصرف كما كان في طفولته، سواء في ردود أفعاله، أو أسلوب حديثه، أو حتى في حاجاته الانفعالية. وكأن العقل يقول: “لنعد إلى الوراء حيث كان كل شيء أبسط وأكثر أماناً”.
الطفولة… ملاذ النفس عند الأزمات
تشير الدراسات إلى أن المراحل العمرية المبكرة من حياة الإنسان – خاصة الطفولة – تمثل “المخزن الأول للأمان”. ففي هذه الفترة، كان الفرد محاطاً عادةً برعاية الأسرة، بعيداً عن التعقيدات الحياتية. لذا حينما يواجه ضغوطاً عصية على التحمل في شبابه أو كهولته، قد يعود عقله إلى تلك المرحلة التي كانت تمثل له شعوراً بالاتزان.
قد تكون هذه العودة لسنوات قليلة أو لعقدين كاملين، وفقاً لشدة الصدمة وطبيعة التجارب السابقة. والنتيجة أن الشخص البالغ قد يظهر عليه سلوك طفولي: كالبكاء المفرط، أو التعلق الشديد بالآخرين، أو حتى استخدام أساليب تعبيرية كانت طبيعية في الطفولة لكنها تبدو غريبة في الكبر.
أمثلة واقعية
شاب في الثلاثين من عمره يفقد عمله فجأة، فيبدأ بالانعزال واللجوء إلى ألعاب الطفولة التي كان يجد فيها راحته.
سيدة تواجه انهياراً في حياتها الزوجية، فتتحدث بنبرة صوت أقرب إلى الطفلة، وتبحث عن حماية الآخرين كما كانت تفعل وهي صغيرة.
هذه الحالات ليست بالضرورة “مرضية”، لكنها مؤشر على أن النفس تعاني وتحتاج إلى فهم واحتواء.
بين الخطورة والإفادة
النكوص قد يكون أحياناً وسيلة مؤقتة لتخفيف الألم النفسي، لكنه إذا استمر وأصبح سلوكاً دائماً، قد يحرم الإنسان من مواجهة الواقع والقدرة على التكيف مع الحياة. هنا، يتحول من آلية دفاعية إلى عرض مرضي يحتاج إلى تدخل علاجي متخصص.
دور العلاج النفسي
التعامل مع حالات النكوص يتطلب فهماً عميقاً للتجارب السابقة للشخص، مع توفير بيئة علاجية آمنة تساعده على استعادة ثقته بنفسه في الحاضر. العلاج السلوكي المعرفي، والعلاج النفسي الديناميكي، إضافة إلى الدعم الأسري، تمثل ركائز أساسية لمساعدة المريض على تجاوز هذه المرحلة.