
لم تعد الترندات على وسائل التواصل الاجتماعى مجرد موجات عابرة تثير الفضول ثم تختفى،
بل تحولت إلى ظاهرة عميقة الأثر تشبه حالة إدمان رقمى جماعى تفرض نفسها على وعى الناس وتتحكم فى أنماط سلوكهم ومشاعرهم بشكل قد لا يلتفت إليه الكثيرون.
ومع اتساع مساحة المنصات الرقمية، يظل السؤال حاضرا:
هل نتابع ما يفرضه الترند بإرادتنا الحرة، أم أننا أصبحنا أسرى خوارزميات تجرنا حيث تشاء؟
تكشف الأرقام حجم الظاهرة وحدتها، فوفقا لتقرير حديث أصدرته منصة “هوتسويت” عام 2024، يقضى المستخدم العادى أكثر من ست ساعات يوميا على الإنترنت نصفها تقريبًا داخل شبكات التواصل.
كما أوضحت دراسة لجامعة هارفارد أن الانغماس المستمر فى متابعة الترندات يرفع مستوى هرمون الكورتيزول فى الجسم وهو الهرمون المسئول عن احداث حالة التوتر،
بما يعنى أن السلوك الرقمى صار ينعكس مباشرة على الصحة النفسية.
أما مؤسسة “بيو” للأبحاث فقد أكدت أن 68% من الشباب يشعرون بضغط نفسى لمجاراة آخر الصيحات الرقمية حتى إن لم تكن تهمهم فى الأصل.
وتأثير الترند لا يقف عند حدود الترفيه أو الاطلاع على الجديد، بل يمتد إلى تشكيل الهوية الشخصية والاجتماعية.
فبحسب دراسات فى علم الاجتماع الرقمى ثلاثة من كل خمسة شباب يغيرون آراءهم أو أسلوب حياتهم لمجاراة ما هو شائع،
وهو ما يعكس قوة القطيع الإلكترونى فى طمس الفردية وخلق أنماط مصطنعة من السلوك قد لا تعبر عن حقيقة الأشخاص.
وقد حذر المختصون فى الصحة النفسية من أن الإفراط فى ملاحقة الترند يقود إلى اضطرابات مقلقة،
أبرزها القلق الاجتماعى الناتج عن المقارنة الدائمة بالآخرين وإدمان التفاعل اللحظى من خلال الإعجابات والتعليقات،
الأمر الذى يقلل من الرضا الذاتى ويجعل الإنسان أسيرا لموافقة الآخرين،
فضلا عن حالات الاكتئاب الرقمى التى تتولد من التعرض المستمر لصور مثالية بعيدة عن الواقع.
والأخطر أن كثيرا من الترندات لا تنشأ تلقائيا كما يتصور البعض،
بل تُصنع عمدا عبر حملات مدفوعة تمولها شركات وجهات تستثمر ملايين الدولارات من أجل خلق موجات مصطنعة تجذب الانتباه وتؤثر فى الرأى العام وتوجهه بعيدا عن قضايا أكثر جوهرية.
أمام هذه المعطيات لا يصبح الحل فى الهروب من العالم الرقمى أو مقاطعته،
وإنما فى امتلاك وعى رشيد يحصن الإنسان من الوقوع فى أسر الوهم.
ويتحقق ذلك من خلال الاختيار الواعى لما نتابعه والتحقق من مصادر المعلومات بعيدا عن الانفعال اللحظى والقدرة على التمييز بين ما هو حقيقى وما هو مصطنع فى فضاء مزدحم بالمؤثرات.
فى النهاية اختتم مقالى بان الهوس بالترندات ليس مجرد تسلية عابرة أو متابعة عفوية لموضوعات متجددة،
بل هو قضية تمس وعينا المجتمعى وصحتنا النفسية بشكل مباشر.
ويبقى السؤال مفتوحا: هل سنظل أسرى لما تفرضه علينا الخوارزميات،
أم سننجح فى أن نصبح قادة لخياراتنا الرقمية نوجهها بإرادتنا بدلاً من أن تجرنا خلفها؟



