مقالات وآراء

حين لا نكون على ما يرام

كتب د-خالد السلامي

ليس من الضروري أن يحدث شيء كبير كي لا نكون على ما يرام.
أحيانًا، يكفي تراكم الأيام. يكفي أن تتشابه الصباحات أكثر مما ينبغي، وأن تمضي المساءات دون أثر واضح، وأن نشعر بأننا نؤدي الحياة بدل أن نعيشها.

هذه الحالة لا تُصنَّف بسهولة.
ليست حزنًا صريحًا يمكن الإشارة إليه، ولا فرحًا يستحق الاحتفال، ولا حتى أزمة تبرر التوقف. إنها منطقة رمادية، معلّقة، يعيش فيها كثيرون دون أن يملكوا اسمًا دقيقًا لما يشعرون به. نقول فيها: أنا بخير، لا لأننا كذلك، بل لأن العبارة أسهل من الشرح. حين لا نكون على ما يرام، نستيقظ وننجز. نضحك في الأماكن المتوقعة. نرد على الرسائل. نفي بالالتزامات. كل شيء يعمل… إلا الداخل.

هناك تعب لا يُرى.
لا يظهر في الخطوات ولا في الصوت، لكنه يثقل الفكر. تعب من الاستمرار، من التماسك الدائم، من الاضطرار لأن نكون مفهومين ومقبولين ومنتجين في الوقت نفسه. كأن الحياة تطلب منا أداءً مستمرًا بلا فترات صمت حقيقية.

الغريب أن هذا التعب لا يُسمح له بالظهور. تعلمنا، بطريقة ما، أن الاعتراف بعدم الاتزان ضعف، وأن التعب يجب أن يُدار بصمت، وأن الشكوى علامة على قلة الامتنان. فنتقن الإخفاء. نطوّر مهارات التظاهر. نبتسم حيث ينبغي، ونؤجل الانهيار إلى وقت غير محدد.

لكن الجسد يتذكر. والقلب لا ينسى. حين لا نكون على ما يرام، يصبح الصمت أثقل من الكلام. نجد صعوبة في الشرح، لا لأن الكلمات غير موجودة، بل لأننا لا نعرف من أين نبدأ. كيف تشرح حالة لا سبب واضح لها؟ كيف تبرر شعورًا لا يرتبط بحادثة واحدة، بل بتراكم طويل من التفاصيل الصغيرة؟ ربما لهذا السبب، نفضّل الصمت.

نخشى أن يُساء فهمنا، أو أن تُقابل هشاشتنا بنصائح جاهزة، أو بأسئلة من نوع: لكن ما الذي ينقصك؟ وكأن الشعور لا يُعترف به إلا إذا كان له سبب واضح، تاريخ، أو عنوان. في هذه المساحة، يتعلم الإنسان أن يكون قويًا أكثر مما يحتمل. القوة هنا ليست اختيارًا، بل ضرورة. لأن التوقف غير متاح، ولأن العالم لا ينتظر أحدًا كي يعيد ترتيب داخله. فنمضي، نجرّ أنفسنا بهدوء، ونقنع الآخرين – وربما أنفسنا – بأن الأمور تحت السيطرة.

لكن السيطرة ليست دائمًا سلامًا. أحيانًا هي مجرد قدرة على تأجيل الانهيار. حين لا نكون على ما يرام، تتغير علاقتنا بالوقت. الأيام تمرّ، لكنها لا تُحسَب. لا شيء مميز، ولا شيء سيئ بما يكفي ليُذكر. مجرد سلسلة من اللحظات المتشابهة. وكأن الحياة دخلت وضع “الحد الأدنى”: أقل شعور ممكن، أقل توقع ممكن، فقط كي نستمر.

وهنا، تكمن الخطورة. ليس في الألم الصريح، بل في التبلّد. في الاعتياد على أن لا نشعر كثيرًا، لأن الشعور مرهق. في تقليل سقف الفرح كي لا نخيب. في تقليص الأحلام إلى حجم آمن. ومع ذلك، لا يمكن إنكار شيء مهم: هذه الحالة إنسانية جدًا.

ليست فشلًا، ولا خللًا أخلاقيًا، ولا دليل ضعف شخصية. هي نتيجة طبيعية لحياة سريعة، مطالبة، مليئة بالأدوار، قليلة المساحات الآمنة. نتيجة لأننا نُطالَب بالتماسك أكثر مما نُمنَح الفهم. لأننا نعيش في عالم يقدّر الأداء أكثر من الصدق. حين لا نكون على ما يرام، نحتاج أقل مما نظن.

لا نحتاج دائمًا حلولًا، ولا خططًا، ولا خطابات تحفيزية. أحيانًا نحتاج فقط إلى اعتراف. إلى شخص يقول: نعم، هذا شعور مفهوم. إلى مساحة لا نُطالَب فيها بأن نكون أفضل فورًا.
نحتاج أن نسمح لأنفسنا بالتباطؤ قليلًا. أن نقرّ بأننا متعبون دون تبرير. أن نكفّ عن مقارنة داخلنا المضطرب بواجهات الآخرين المصقولة. أن نتذكر أن ما نراه من حياة الآخرين هو الجزء المعروض فقط، لا الكواليس. الأهم من ذلك، نحتاج أن نكون أكثر لطفًا مع أنفسنا.

أن نخفف لغة القسوة الداخلية. أن نتوقف عن محاسبة أنفسنا على كل شعور لا يبدو “مثاليًا”. أن نفهم أن الاستقرار ليس حالة دائمة، بل موجة نصعدها وننزلها. ربما لن نكون على ما يرام اليوم. وربما غدًا أيضًا. لكن هذا لا يعني أننا مكسورون، أو ضائعون، أو متأخرون عن الحياة.

يعني فقط أننا بشر، نحاول، ونتعب، ونواصل بما تيسّر من القوة.
وفي لحظة ما – غالبًا دون إعلان – يتحرك شيء في الداخل.
ليس لأن كل شيء صار أفضل، بل لأننا صرنا أصدق مع أنفسنا. لأننا لم نعد نهرب من الشعور، بل نجلس معه قليلًا. نسمح له بالمرور. وحينها، لا نصبح “على ما يرام” فجأة، لكننا نصبح أقرب إلى ذلك. وهذا، في حد ذاته، بداية كافية.
المستشار الدكتور خالد السلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock