مقالات وآراء

شاومينج”: ما بين الغش، وضياع الحلم، وحروب الجيل الخامس

جريدة الصوت

رؤية فنية: فيفى سعيد محمود 

منذ عقود طويلة، تحولت الثانوية العامة في مصر إلى كابوس جماعي يزور البيوت كل عام،

لا يفرّق بين غني أو فقير، ولا بين متفوق أو متعثر.

منظومة جعلت من عام دراسي واحد مقياسًا وحيدًا للحياة والمستقبل،

حتى أصبح يُلقب بـ”بُعبُع الثانوية العامة”.

 هذا البعبع لا يقتصر أثره على الطالب وحده، بل يمتد ليحاصر الأسرة بأكملها في قلق دائم،

يهدد السلام النفسي، ويقمع الأحلام، ويشوّه الطموح.

وسط هذا المناخ، لا عجب أن تظهر ظواهر مثل الغش الجماعي، وتسريبات الامتحانات،

والاتكال على السناتر التعليمية، وتحويل الدراسة من وسيلة للفهم إلى ماراثون للتلقين والحفظ.

 وكلما اشتدت الضغوط، هرب الطلاب إلى “الخلاص الزائف” في شكل سماعات،

وصفحات للغش الجماعى على التليجرام ومواقع التواصل الاجتماعي وشاومينج،

وقاعات تدار كأنها مسارح لا فصول تعليم.

وفي هذا الإطار، جاءت رؤيتي الفنية لفيلم “شاومينج” .

وشاومينج فيلم كوميدي مصري من إنتاج عام 2021.

 ومن إخراج شادي أبو شادي، وتأليف أشرف حسني،

وإنتاج وليد تمام، ومن بطولة بيومي فؤاد، وصلاح عبد الله،

وأحمد سلطان، وتوني ماهر، وحامد الشراب.

كمحاولة لفهم هذه الظاهرة من الداخل، لا كمجرد إدانة للغش،

بل كقراءة لواقع مضطرب أنتج جيلاً تُسرق منه الأحلام تحت شعار: “ادخل كلية ترفع راسنا”،

حتى لو دفن فيها موهبته وهويته. فيلم كشف بجرأة كيف أصبحت الثانوية العامة ساحةً لحروب نفسية وفكرية،

ضمن معركة أكبر تقودها حروب الجيل الخامس ضد وعينا وهويتنا.

ومن هنا جاءت فكرة فيلم “شاومينج” ليكشف واقعًا دراميًا ساخرًا يحمل في طياته رسائل اجتماعية وتربوية خطيرة، من خلال معالجة ذكية لظاهرة الغش الإلكتروني، التي اجتاحت المجتمع المصري، خصوصًا في مرحلة الثانوية العامة. تلك المرحلة التي باتت تمثل “معركة مصيرية” ليس للطلاب فقط، بل لأسر بأكملها، ترهن مستقبلها في ورقة امتحان، أو رقم تنسيق.

الفكرة الدرامية للفيلم تنطلق من تصوير التواطؤ المجتمعي ضد مبدأ “الاعتماد على النفس”، حيث تحولت الامتحانات إلى مجرد عائق يمكن تجاوزه بالمال أو التكنولوجيا، وصار الغش وسيلة مشرّعة لتحقيق الحلم. من جهة أخرى، تقدم السناتر التعليمية في الفيلم نموذجًا فاضحًا لما آلت إليه منظومة التعليم الموازي، حيث تحولت إلى قاعات للرقص وسماعات وأضواء وأعداد بالملايين من الطلاب، كأنهم يتجهون إلى حفل لا إلى مستقبل.

الحبكة تتطور تدريجيًا، فنشاهد مجموعة من الشباب يسلكون طريق الغش من خلال شبكات “شاومينج”، حتى يجدوا أنفسهم داخل دائرة من الابتزاز والضياع، تنتهي بـ”اعتراف” وتسليم أنفسهم للعدالة.

النهاية لم تكن مجرد إجراء بوليسي، بل كانت خطوة تطهير للضمير، ورسالة مفادها أن حماية النفس الحقيقية ليست من الامتحان، بل من السقوط الأخلاقي.

السرقات الإلكترونية في الفيلم لم تُعرض كجريمة تقنية فقط، بل كجزء من منظومة أوسع من الغزو الفكري، الذي يستهدف شبابنا فيما يعرف بـ”حروب الجيل الخامس”. وهي حروب لا تُخاض بالرصاص، بل بتغييب الوعي، وتشجيع الاستسهال، وقتل الإرادة، لتخرج لنا أجيالًا لا تصدق إلا ما يُكتب لها على الشاشة، ولا تؤمن بقدرتها على التفكير أو المحاولة.

وما يزيد الأزمة عمقًا هو منهج التلقين الذي يحكم العملية التعليمية، حيث يُدرّس الطالب ليحفظ، لا ليفهم. ليكرر، لا ليبدع.

 فنصنع منه ببغاءً ماهرًا لا يدرك ما يقوله، ولا يعقل ما يكتبه.

ثم نلومه حين ينسى، ونجلده حين يفشل، دون أن نعترف أن نحن من قتل فيه روح الفهم والاكتشاف.

وتلقين العلوم نظري لتعطل المعامل أو عدم قدرة المدرس على تفاعله مع الطالب قبل أن يتفاعل الطالب معه

وتناسينا أن المدرس هو أضعف شئ فى المنظومة التعليمية فى اختناقهم بضيق الوقت وتكدس الطلاب بالفصول وسوء اخلاق الطلاب وعدم وجود قاعات مهيأة لأن يكون معلما مثاليا .

ويأتي هذا متوازيًا مع كارثة أكبر: إجبار الأبناء على كليات لا تعبر عنهم، لمجرد أنها ترضي طموح الأهل أو “شكل العيلة”، لا يختلف هذا في ضرره عن الغش. كلاهما يسلب الطالب حقه في الحلم. نحبس أبناءنا داخل قوالب جامدة، وننسى أنهم بشر لهم ميول وطاقات مختلفة.

فكم من فنان موهوب وُئدت موهبته لأنه يعزف جيتارًا لا سماعة طبيب؟ وكم من كاتب مبدع كُسر قلمه لأنه لا يكتب تقارير طبية؟ الموهبة في الغناء، التمثيل، العزف، كتابة القصة أو الشعر، والرياضة، كلها تُصنّف داخل الأسرة العربية على أنها “ترف”، لا مهنة، ولا حتى واجهة اجتماعية محترمة. فيُدفن المبدع حيًا تحت أنقاض طموحات غيره.

“شاومينج” ليس مجرد فيلم عن الغش، بل هو مرآة حقيقية لمجتمعنا، يضعنا أمام سؤال صادم: من الذي غش فعلاً؟ الطالب؟ أم نحن؟ وهل نحارب الغش، أم نحارب السبب الذي يدفع إليه؟

إن الحل الحقيقي لا يكمن فقط في إلغاء صفحات التسريب، بل في بناء منظومة تربوية تؤمن بأن النجاح ليس وظيفة، بل شغف.

وأن أعظم إنجاز نحققه لأبنائنا، هو أن نسمح لهم بأن يحلموا، بأصواتهم هم، لا بصدى أصواتنا نحن.

https://images.app.goo.gl/wHhSREGfjF6RqsxC7

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock