مقالات وآراء

«شوارعنا تئنّ… بين طوفان الإهمال وفوضى العرقلة»

أشرف ماهر ضلع 

 

في زوايا مدننا، حيث كان يُفترض أن تنساب الحياة بسلاسة كنسمة الصباح، صار المشي على الرصيف تحدّيًا يوميًّا، وعبور الشارع مغامرة قد تكلّف أكثر من لحظة تأخير. لم تعد الشوارع مساحاتٍ عامةً نظيفةً يرتادها الناس بطمأنينة، بل تحوّلت إلى ساحاتٍ للفوضى، ومراسٍ للعبث، ومستنقعاتٍ تُروى من صنابير الإهمال لا من أمطار السماء. إنّ ما نعيشه اليوم من اشغالات عشوائية، وتصريفٍ عبثي للمياه، ليس مجرد إزعاجٍ عابر، بل هو انعكاسٌ صارخ لغياب الوعي الجماعي، وضعف الرقابة، وانهيار مفهوم المسؤولية في عقول البعض.

 

الفوضى المُنظَّمة: حين يُصبح الرصيف ملكًا خاصًّا!

 

من أين يبدأ الوعي؟ هل يبدأ من فردٍ يرمي قشرة موزٍ على الأرض، أم من جهة تُشغّل شارعًا كاملًا دون سابق إنذار؟ الحقيقة أنّ “الاشغالات” التي تقطع أوصال المدن ليست دائمًا أعمال صيانة أو بنية تحتية ضرورية، بل في كثير من الأحيان تحوّلاتٌ عشوائية لمساحات عمومية إلى ملكيات خاصة. مطعمٌ يمدّ كراسيَه إلى الرصيف، محلٌّ يرصّ بضاعته على ممرّ المشاة، بل حتى عربةٌ متنقّلة تقيم دكانها وسط الرصيف كما لو أنّها تملك سند ملكية على جزءٍ من الشارع!

 

والأسوأ من ذلك، أنّ هذا التعدّي لا يُقابل بردعٍ أو تنظيم، بل يُغطّى بستار من الصمت الرسمي، وكأنّ المدينة قد صارت سوقًا نخاسةً تُباع فيها الحقوق العامة بأسعار زهيدة. فيغدو المشاة—وخاصة كبار السن، والنساء، وذوي الاحتياجات الخاصة—ضحايا هذا التهاون، يتنقّلون بين عوائقَ كأنّهم في متاهةٍ لا تنتهي، وقد يضطرون إلى النزول إلى قلب الطريق، حيث تزأر السيارات، وينتظرهم الحادث في أية لحظة.

 

سيولٌ في الصحراء: حين تصبح الشوارع أنهارًا من القذارة

 

وإذا كانت الاشغالات تُعطل حركة الجسد، فإنّ تسرب المياه وتصريفها العشوائي يُعطل حركة الحياة نفسها. فكم من مرةٍ مررنا بشارعٍ يغمره الماء، لا من سيول السماء، بل من أنابيب تالفة، أو محابس مفتوحة دون رقابة؟ المياه التي ينبغي أن تكون نعمةً تتحول إلى نقمة حين تُهدر وتُسيء. فهي لا تُفسد فقط سطح الطريق، بل تُنمّي الطين، وتُولّد مستنقعاتٍ تتكاثر فيها الجراثيم، وتُطلق روائحَ كريهةً تلوّث الهواء قبل أن تلوّث المكان.

 

ولا نكاد ننسى ذلك المشهد المتكرر: طفلٌ يركض في طريقه إلى المدرسة، يغمر حذاءه ماءٌ مجهول المصدر، قد يكون ناتجًا عن شبكة صرفٍ منهارة، أو ربما مجرد صنبورٍ تركه أحد العمال مفتوحًا طوال الليل! هذا ليس إهمالًا فرديًّا فقط، بل فشلٌ جماعي في إدارة الموارد، وحماية الفضاء العام، وفرض احترامه.

 

الجذور الخفية: غياب الثقافة، وانهيار الرقابة

 

إنّ جذور هذه الكارثة اليومية لا تكمن فقط في ضعف البنية التحتية أو نقص الإمكانيات—رغم أهميتهما—بل في ما هو أعمق: **نقص الثقافة المدنية**. فالمواطنة ليست مجرد امتلاك بطاقة هوية، بل هي إحساسٌ بالانتماء، واحترامٌ للآخر، والتزامٌ بالحفاظ على ما هو مشترك. وحين يغيب هذا الشعور، يغدو الرصيف ملكًا لمن يغتصبه، والشارع حوضًا لكل من أراد أن يفيض ماءه.

 

ولا يمكننا أن نغضّ الطرف عن دور الجهات الرقابية، التي تبدو في كثير من الأحيان كأنّها تنام على صوت صرير الآلات، أو تغمض عينيها عن التعدّيات الصارخة. فهل يعقل أن تُشغّل جهة ما شارعًا رئيسيًّا دون إشعار مسبق؟ وهل يُعقل أن يُترَك تسرب مياهٍ مستمرّ لأسابيع دون تدخل؟ إنّ غياب المحاسبة يولّد ثقافة الإفلات، ويشجّع على مزيد من التجاوزات.

 

نحو شوارعٍ تحفظ كرامة الإنسان

 

ليس المطلوب مستحيلاً. ففي مدنٍ كثيرة حول العالم، يُحترم الرصيف كما يُحترم البيت. وتُنظّم الأشغال بصرامة، ويُعاقب المخالف، ويُكافأ الملتزم. وفي بلادنا، حيث تُقدّر الكرامة بثمنٍ لا يُقدّر، لا يجوز أن نقبل بأن يُهان الإنسان وهو يمشي في شارعه، أو أن يُجبر على التنقّل كأنّه في أرضٍ معادية.

 

الحلّ لا يبدأ فقط بحملات تنظيف أو غرامات مالية—رغم ضرورتها—بل ببناء **ثقافة مدنية جديدة**، تُدرّس في المدارس، وتُبثّ في الإعلام، وتُطبّق في الشارع. فليُدرَس الوعي المروري جنبًا إلى جنبٍ مع الوعي البيئي، وليُغرس في نفوس الناشئة أنّ الشارع ليس ملكًا لأحد، بل هو مُلكٌ مشتركٌ يصون كرامة الجميع.

 

صوتٌ من قلب الشارع

 

الشارع لا يتكلّم، لكنه يئنّ. يئنّ حين يُغتصب رصيفُه، ويئنّ حين يفيض عليه الماءُ كأنّه عقابٌ إلهي. ونحن، سكّان هذا الوطن، مطالبون أن نكون صوتَه، وأن نحميَه كما نحمي بيوتنا. فالمدينة ليست مجرد طرقات وأبنية، بل مرآةٌ لضمير أهلها، ودليلٌ على وعيهم، ومؤشرٌ على حضارتهم.

 

فلنرفع رؤوسنا، وننظّم فوضانا، ونُجفّ سيول إهمالنا، قبل أن تصبح شوارعنا مقابرَ لكرامة الإنسان، وقبورًا لآماله.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock