
بقلم: محمود سعيد برغش
تجلسُ الصمتُ بينهما كضيف ثقيل، لا يُراد له البقاء لكنه باقٍ، ينهش ما تبقى من مشاعر. رجل وامرأة يقتسمان الغياب فوق مقعد واحد، لا تفصل بينهما المسافة، بل تفصل بين قلبيهما صحراء قاحلة من الصمت والجفاء. وبينهما قلب مشتعل، يتوسط شرخًا في الجدار، وكأن القلوب تصدعت قبل الجدران.
إنها ليست خيانة ولا ضربًا… بل غياب الرحمة.
قال تعالى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]
أين ذهبت المودة؟ وأين غابت الرحمة؟ عندما يغيب السكن النفسي، تنهار أعمدة البيت مهما اشتدت جدرانه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“خياركم خياركم لنسائهم” [رواه الترمذي].
فكيف بمن يهجر زوجته لا لذنب، بل لعجزه عن الفهم، عن الاقتراب، عن الإنصات؟
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:
“ليس الرجل من يغلب امرأته، ولكن الرجل من يَكفّ غضبه ويحلم عند الغضب.”
وها هو الحسن البصري يقول:
“من ساء خلقه عذّب نفسه، وأحزن أهله، وضيّع دينه.”
الصمتُ الذي يقتل
في الشريعة، لا يُحمد هجر الزوجة إلا لغاية الإصلاح، وبشروط، قال تعالى:
{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ…} [النساء: 34]
لكن ما نراه اليوم هجرٌ في الكلام، في القلب، في المشاعر، لا في المضجع فحسب. هجر يجعل من البيت قبراً لا حياة فيه.
وقد اتفق الفقهاء على أن الكلمة الطيبة من أسباب بقاء المودة، وأن الإعراض الدائم منافٍ للمعاشرة بالمعروف. قال الإمام مالك:
“يجب على الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف، فإن لم يفعل كان ظالمًا.”
الشرخ في الجدار هو شرخ في الشرع
لا تنكسر العلاقة فجأة، بل تتآكل ببطء، كما قال الإمام الشافعي:
“من استغنى عن الناس استغنى، ومن احتاج إليهم تذلل، ومن أحسن إليهم ملك قلوبهم.”
فكم من زوج لم يُحسن إلى زوجته، ولم يحتج إلى قلبها، حتى غابت عنه، وهي جالسة بجواره!
وما الحب إلا دين
الحب الذي شرعه الله بين الأزواج ليس رغبة وقتية، بل عهد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله.” [رواه مسلم]
فأي خيانة أعظم من أن تنكسر الأمانة بصمت، وتُستحل الروح بالجفاء؟
صرخة ألم… لكنها صرخة أمل أيضًا.
فالقلوب إذا صلحت، صلح البيت، وإذا رجع كل طرف إلى الله قبل أن يرجع إلى الآخر، صلح كل شيء.
قال ابن القيم:
“القلب إذا خلا من ذكر الله، تناثرت فيه الشهوات كما يتناثر الزجاج المنكسر.”
رسالة لكل زوج وزوجة:
عودوا إلى ما شرعه الله في المعاشرة، تذكّروا أن أول بيت في الإسلام كان بيت النبوة، يقوم على الحوار واللين، لا على الصمت والعناد.
ليست الطلقة فقط من تهدم البيوت، بل الكلمة المؤلمة، والنظرة القاسية، والظهر المدبر.
صرخة ألم… فهل من مستجيب؟