
أثار قرار السلطات السورية رفع اسم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر من أحد شوارعها موجة واسعة من الجدل والاستنكار، ليس فقط باعتباره إجراءً إداريًا يخص تسمية شارع، بل لما يحمله من دلالات سياسية وتاريخية عميقة تمس رمزًا عربيًا ارتبط اسمه بفكرة القومية العربية، وبالتجربة الوحدوية المصرية-السورية، وبمواقف داعمة لسوريا في لحظات مفصلية من تاريخها.
جمال عبد الناصر لم يكن رئيسًا مصريًا فحسب، بل كان رمزًا عربيًا جامعًا، وسوريا كانت شريكًا أساسيًا في مشروعه القومي خلال فترة الوحدة. ومن ثم، فإن رفع اسمه من شارع سوري يُقرأ باعتباره رسالة سياسية، أو محاولة لإعادة كتابة الذاكرة العامة، أو تصفية حسابات تاريخية مع مرحلة بعينها، أكثر منه قرارًا خدميًا عابرًا.
الخطورة هنا لا تكمن في تغيير اسم شارع، بل في استهداف الرموز المشتركة التي شكلت وجدان الشارع العربي لعقود، وفي مقدمتها رموز حملت مشروعًا وحدويًا لم يفرق بين القاهرة ودمشق.
يتزامن هذا القرار مع خطاب إعلامي وسياسي سوري متكرر يتسم بالحدة تجاه مصر، وهو أمر يطرح تساؤلات مشروعة، خاصة إذا ما قورن بالموقف المصري الثابت منذ اندلاع الأزمة السورية، حيث استضافت مصر ملايين السوريين، وفتحت لهم أبواب العمل والتعليم والعلاج دون معسكرات لجوء أو تمييز، وتعاملت معهم باعتبارهم أشقاء لا ضيوفًا.
هذا الهجوم يمكن قراءته في عدة سياقات:
اختلاف الرؤى السياسية حول ملفات إقليمية حساسة ، محاولة تصدير أزمات داخلية عبر افتعال خصومات خارجية ، ضغوط وتحالفات إقليمية تسعى إلى توتير العلاقة بين القاهرة ودمشق ، رغبة في إعادة صياغة الخطاب القومي بما يتماشى مع توجهات سياسية جديدة لا ترى في تجربة عبد الناصر مرجعية إيجابية.
لا يمكن تعميم القرار على الشعب السوري أو حتى على كل النخبة السياسية، فهناك قطاعات واسعة من السوريين ما زالت تنظر لمصر باعتبارها الشقيقة الكبرى، وتكن احترامًا خاصًا لعبد الناصر ورمزيته.
لكن اللافت أن بعض دوائر صنع القرار تتجه إلى خطاب تصادمي، يتسم بإعادة تقييم قاسية للتاريخ، وربما قطيعة رمزية مع مرحلة القومية العربية.
هذا التوجه، إن استمر، قد يعمّق الفجوة النفسية والسياسية بين البلدين، ويقوض أي فرصة حقيقية لإعادة بناء علاقات عربية قائمة على الذاكرة المشتركة والمصالح المتبادلة.
الاستمرار في استهداف الرموز المصرية، أو تبني خطاب عدائي تجاه القاهرة، ستكون له نتائج سلبية، من بينها: توتير العلاقات الشعبية قبل الرسمية ، إضعاف أي مساعٍ عربية لإعادة سوريا إلى محيطها الطبيعي ، تقديم صورة سلبية عن سوريا في لحظة تحتاج فيها إلى الدعم لا الصدام ، فتح الباب أمام أطراف إقليمية لاستغلال الخلافات العربية العربية .
حتى الآن، يتسم الرد المصري بالهدوء وضبط النفس، وهو نهج اعتادت عليه القاهرة في إدارة الأزمات العربية. مصر تدرك أن الانزلاق إلى سجالات إعلامية لا يخدم أحدًا، وتفضل الاحتفاظ بموقفها الأخلاقي والسياسي الداعم لوحدة سوريا واستقرارها، دون التخلي عن حقها في الدفاع عن رموزها وتاريخها.
القاهرة تراهن على أن الحكمة ستسود، وأن العلاقات بين الدول لا تُبنى على استفزازات رمزية، بل على إدراك المصالح المشتركة، واحترام التاريخ، والاعتراف بالدور الذي لعبته مصر ولا تزال تجاه الشعب السوري.
رفع اسم جمال عبد الناصر من شارع سوري قد يغير لافتة، لكنه لن يغير حقيقة أن الرجل سيبقى حاضرًا في الوعي العربي، وأن مصر ستظل سندًا للشعوب العربية مهما اختلفت الحسابات السياسية. أما الرهان على استعداء القاهرة، فهو رهان خاسر، لأن مصر لا تبني علاقاتها على الأسماء المرفوعة أو المزالة، بل على ثوابت التاريخ ومسؤولية الدور.



