
انتهت معارك المنافسة السياسية، وأوشك السباق الانتخابي على إسدال أستاره الثقيلة بعد أسابيع محتدمة امتلأت بالوعود، والهتافات، والحشود، ولم يتبقّ سوى جولة الإعادة. لكن خلف ذلك الضجيج بقي أثر يجب أن يُقرأ بعين واعية وضمير يقظ… أثرٌ تركته بعض الممارسات التي لم تكن على مستوى رجاحة المصريين ولا على قدر عراقة التجربة السياسية في وطن يمتد عمره الحضاري لآلاف السنين.
لقد أثير الكثير حول المال السياسي، وتحدث البعض عن تدخلات ونفوذ وانحيازات، وازدحمت الساحات بنقاشات حادة، واتهامات متبادلة، واحتقان في بعض الدوائر… لكن دون شك كانت أسوأ صور المشهد هي تلك الشروخ الصغيرة التي تسللت إلى العلاقات؛ شروخٌ ظهرت بين الأصدقاء، وبين الأقارب، والجيران، وكأن الاختلاف في المرشح يُلغي صلة، أو يهدّ همّة، أو يمسّ قدراً من محبة راسخة عبر السنين.
هنا، لا بد من وقفة!!
وقفة حق وحكمة، نعود فيها إلى أصل ثابت:
هو أن الوطن أكبر من مرشح… وأعظم من مقعد… وأبقى من أي تنافس عابر.
يقول المولى عز وجل:
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾
هذا الأمر الإلهي كفيل بأن نمتثل ونذهب مباشرة نحو إعادة ترتيب الأولويات في نفوسنا، فالعبرة ليست في أن ينتصر اسم، بل أن ينتصر وطن.
إن الخلافات التي حدثت—مهما بدا حجمها—لا ينبغي لها أن تتحول إلى خصومات دائمة، ولا إلى قطيعة تمتد. فما جرى مكانه الطبيعي إن وُجِد حقٌّ ضائع أو شبهة باطلة، هو ساحات القضاء فقط، لا ساحات القلوب، ولا منصات التواصل، ولا جلسات العائلة.
وفي هذا يقول النبي ﷺ:
“ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟” قالوا: بلى يا رسول الله. قال: “إصلاح ذات البين”.
ومن ذلك نفهم أن إصلاح العلاقات ليس مجرد فضيلة اجتماعية… بل فرض وطني في لحظة يحتاج وطننا فيها إلى كل طاقة، وكل عقل، وكل يد مخلصة.
وإذا نظرنا حولنا إلى مشاهد العالم—من صراعات دول انهارت، ومجتمعات تشرذمت، واقتصادات سقطت—سندرك أن نعمة وحدة مصر ليست أمراً عابراً.
فقد كانت اللحمة الوطنية هي السد الذي حمى البلاد من انزلاقات الربيع العربي، وهي التي جعلتنا نعبر سنوات شديدة الصعوبة دون أن نفقد بوصلة الدولة ولا هيبتها ولا مؤسساتها.
وعليه، فواجب المرحلة الآن هو أن نسرع جميعاً نحو ترميم العلاقات التي خدشتها أجواء المنافسة، وأن نعيد ترتيب صفوفنا على قاعدة واحدة هي: “أن مصر أولاً… وستظل دائماً أولاً”.
لا معنى لبرلمان قوي إذا كان المجتمع نفسه متصدّعاً، ولا قيمة لنائب يصل إلى الكرسي الوثير بينما علاقات الجيرة والصداقة والعائلة مثقلة بالتوتر والجفاء. فالدولة لا تُبنى بقوانين فقط، بل تُبنى بنسيج اجتماعي متماسك، وبشعب يعرف متى يختلف، ومتى يتجاوز، ومتى يصطفّ صفاً واحداً.
نحن الآن على أعتاب مرحلة حساسة تتطلب من أعضاء البرلمان المقبل—أياً كانت أسماؤهم—أن يعملوا للوطن لا للذات، وأن ينصرفوا للمهام الثقيلة المنتظرة، من:
تشريع، رقابة، دعم خطط التنمية، تعزيز الدولة الرقمية، حماية الهوية الوطنية، وتطوير منظومة كل من الصحة والتعليم والاقتصاد… كل ذلك يحتاج إلى استقرار اجتماعي لا تشوبه شروخ الانتخابات.
لذا فالنداء الذي نطلقه اليوم ليس للهزيمة أو الانتصار… بل للوحدة.
ليس للناجحين من المرشحين فقط، بل لكل مصري شارك، أو ناقش، أو غضب، أو انحاز.
فقد آن الأوان لأن نطوي صفحة المنافسة، ونفتح صفحة التعاون، امتثالا لقول الله تعالى:
﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾
يا أبناء مصر…
لنُعيد اللحمة كما كانت، أقوى مما كانت.
لنمدّ الأيدي، كي نصل ما انقطع، ونمسح ما عكّر النفوس.
فالوطن لا يرتقي إلا بجماعة متماسكة، وقلوب متصالحة، وإرادة موحّدة.
وفي الختام، نقولها بصدق لا رياء فيه ولا مبالغة:
إن مستقبل مصر لن يصنعه نائب وحده، بل يصنعه شعبٌ يعرف أن الخلاف رأي، والوطن قدر، وأن حب مصر أكبر من كل انتخابات.
وفي النهاية نرفع أكف الضراعة إلى المولى سبحانه أن يحفظ مصر ويديم عليها أمنها واستقرارها ومسيرتها المضيئة.
اللهم هل بلّغت… اللهم فاشهد.



