فن وثقافة

قراءة انطباعية في رواية “قناع بلون السماء”

الصوت الإخبارية

د. كايد الركيبات

فازت رواية “قناع بلون السماء” للكاتب الفلسطيني باسم خندقجي بالجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر”، هذا العام. أصدر الكاتب شهادة ميلادها بتاريخ 9 / 11 / 2021 في سجن جلبوع الكولونيالي، رأت النور نشراً وتوزيعاً عن دار الآداب للنشر والتوزيع في 240 صفحة من القطع المتوسط.

مثلت الرواية ثبات الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وقدمت حواراً داخلياً وخارجياً حول الهُوِيَّة الفلسطينية وخطورة التخاذل الداخلي والتعايش مع الاحتلال، في نقاش أخذ مسارين: مسار تماهى مع الواقع، ومسار رفض الواقع. قدم الكاتب في السردية الروائية نماذج متعددة مثلت أدوار تعامل الشخصيات الفلسطينية مع هذين المسارين تحت تأثير الواقع المأسور بقوة وتحكم الاحتلال الإسرائيلي بالأرض والإنسان.

النموذج الأول من الشخصيات كان نموذج الفتى الفلسطيني المناضل الذي لا يخشى القتل أو الأسر في سبيل أن تبقى القضية الفلسطينية حية متفاعلة لا تخضع لرغائب المحتلين، عبر الكاتب عن هذا النموذج بشخصية مراد “المحكوم بالسجن المؤبد مدى الحياة، المعتقل منذ عشر سنوات في غياهب المعتقلات الصهيونية، بتهمة تخطيط عمليات إطلاق نار ضد جنود الاحتلال وتنفيذها” (ص: 17).

النموذج الثاني كان نموذج الأسير المُفرَج عنه بعد قضاء مدة محكوميته أو جزء منها في السجون، شريطة تعهده بعدم الاشتراك في أي تحركات تثير الشغب أو العنف ضد قوات الاحتلال. مَثَّلَ هذا النموذج مهدي الشهدي، والد بطل الرواية. سألوه: “ماذا ستفعل بعد ذبول الانتفاضة وحلول السلام علينا أو ما يشبهه بسلطةٍ وطنية؟” فأجابهم بصوتٍ مبحوح: “قهوة وشاي” (ص: 30). لأنه خرج من السجن مخذولاً من النكران والجحود من قبل “أصدقائه ورفاق دربه في النضال والانتفاضة الذين انشغلوا بأبّهتهم الجديدة التي تراقصت فوق مائدة السلام المختل وسلطة الوهم والحيرة” (ص: 33).

النموذج الثالث نموذج الشيخ مرسي، شخصية لها ارتباطاتها الوثيقة مع شخصيات فلسطينية نافذة ذات قدرة على التواصل مع الأطراف اليهودية المتنفذة في أجهزة الدولة. وهو شخصية دينية ارتبطت بمدينة القدس. شخصيته الروائية مثلت بعض الشخصيات التي تملك القدرة على تقديم يد العون للمواطن الفلسطيني المسحوق دون الكشف عن مصدر قوتها أو نفوذها أو طبيعة ارتباطها ومدى شرعيته مع أصحاب النفوذ في الجانب الإسرائيلي. شخصية الشيخ مرسي محيرة. الكاتب نفسه لم يقدم أي شواهد تساعد في تصنيفه أو إطلاق الحكم عليه: “وفي القدس، تجلّى مرسي الغرناطي. الشيخ مرسي ــ كما كان يُحبّ أن يُلقّب ــ حارساً وراعياً لنور الغريب القادم من أعماق الأزقة. الشيخ مرسي .. ما الذي جذبه لنور سوى ذلك الاقتضاب المليء بالصمت؟ صمت محبّذ؟.. ليحتضنه الشيخ مرسي مستغلاً حظوته لدى شكيب القصابي، الذي لم يكن واثقاً بدوره من إمكانية استمرار نور بالعمل لديه” (ص: 59).

أشارت الرواية إلى نموذج آخر مثل فئة مؤثرة في الشارع الفلسطيني، متحكمة بمصير القضية الفلسطينية. هذه الفئة تتحرك في حدود تحقيق مكاسبها الشخصية، امتلكت السلطة والنفوذ والمال والقدرة على اتخاذ القرارات المصيرية وإمكانات توجيهها وفقاً للأجندات التي تخدمها. لا تتورع عن تقديم الضحايا ومن ثم تتخلى عنهم وتتركهم لمصيرهم يواجهونه متحملين تبعاته بمفردهم. ضحاياهم إما أن يصبحوا نزلاء في سجون الاحتلال للتخلص منهم ومن مواقفهم المناكفة، أو أن يتعايشوا في مجتمعهم مستسلمين للنكران والخذلان وطمس تاريخهم النضالي.

“نور” الشخصية الرئيسة في الرواية، واللسان الناطق للأحداث، قُدمت شخصيته في الرواية نموذجاً لفتى يسعى لتحقيق حلمه بإنجاز رواية تحكي سيرة القديسة مريم المجدلية. وحيث أن أحداث الرواية تتطلب استكشاف مناطق في العمق المحتل من فلسطين، احتاج إلى أن يتخفى بشخصية اليهودي أور شابيرا بعد أن عثر على بطاقته الشخصية في جيب معطف اشتراه من سوق الملابس القديمة، واستبدل صورته الشخصية بالصورة على تلك البطاقة. مكنه من النجاح في أداء هذا الدور لون بشرته وإتقانه اللغة العبرية. قال مخاطباً صديقه مراد: “للاسم مناعة يا مراد وللقناع حصانة.. وأنا عثرت على قناع واسم لأتسلل من خلالهما إلى أعماق العالم الكولونيالي.. أنا أجد متعة بنجاحي في تمرير شخصيتي كأور شابيرا.. القناع يمنحني اكتفاءً تاماً.. أنا لم أنتحل الاسم فقط، بل تخيلته أيضاً” (ص: 56). شخصية نور تمثل النموذج الفردي المتراخي، الذي يبحث عن تحقيق أهدافه الشخصية بالتعامل السلمي مع المحتلين، حتى لو تطلب الأمر الانصهار في هويتهم، والتعايش معهم كأحد أفراد مجتمعهم.

توازنت حبكة الرواية بوجود شخصية سماء إسماعيل، يهودية الجنسية من عرب 1948، لكنها ترفض قيود الجنسية، وتتمسك بأصولها وهويتها الفلسطينية، وتحاول في كل مناسبة تعرية الكيان المحتل، وتؤكد الانتماء المتجذر الذي يربطها بالأرض الفلسطينية. عرّفت عن نفسها بالقول: “سماء إسماعيل من حيفا من هذه البلاد. لم تقل إنها من إسرائيل أو عربية إسرائيلية، لأنها تحمل بطاقة هُوِيَّة إسرائيلية” (ص: 165). وقالت: “كوني أعيش هنا فإن هذا لا يعني أنني إسرائيلية أو يهودية.. كلا.. فهناك فرق شاسع بين كوني عربية فلسطينية وكوني إسرائيلية!” (ص: 176).

اشتدت في متن الرواية اللغة الحوارية الرافضة لمحاولات التماهي مع القيود المفروضة على المواطن صاحب الأرض من قبل المحتل، والتسليم لها، أو الانجراف مع توجهاتها وإن كانت مخالفة تماماً لطموحات صاحب الأرض وأحلامه، ومؤثرة في مصيره. قال نور مبرراً موقفه: “أنا أكتب رواية تاريخية عن مريم المجدلية.. وبيئة الرواية هنا في هذا السهل وقرية اللجون المهجرة، ولا يمكنني الوصول إلى هنا بحرية مستخدماً هويتي الفلسطينية، فانتحلت هوية صهيونية” (ص: 223). ردت سماء قائلة: “أيها المغفل، أنا أنتظر عمراً بأكمله من أجل الخلاص من هذه الهوية.. وأما أنت، فقد خسرت عمرك كله لترتدي هذا القناع! هذه الهوية التي نكبتني” (ص: 224).

جاءت الرواية على ذكر شخصيات هامشية بدرجة تعكس واقعها الهامشي في الحياة السياسية الفلسطينية. شخصيات كُتب عليها التعايش مع المعاناة والحرمان وتجرع مرارة الفقد لا تملك غير الحزن والصبر زاداً للحياة، منها شخصية أم عدلي، والدة أحد أسرى الاحتلال الإسرائيلي (عادل). يصفها الكاتب قائلاً: “لا حياة في رام الله والبيرة هذا الصباح. لا حياة إلا لذوي الأسرى وأنفاس أمّ عدلي الثقيلة، يتأمل وجهها الذي لا يكون بدراً بهياً إلا قبل زيارة مراد وأثنائها، وعندما تعود مثقلة باللوعة والخسران فكان البدر يخسف” (ص: 24، 25).

“قناع بلون السماء” رواية منحوتة من مأساة عاشها كاتبها، مثلت رسالة للأحياء وأهل الإباء والشموخ وعزة النفس من أهل القضية، تحثهم على الالتصاق بقضيتهم التحررية، وخلع الأقنعة المزيفة التي تفرضها المغريات، أو تتطلبها المصالح الشخصية. عادت بهم الرواية إلى أصل الحكاية، إلى جذورهم العميقة بالأرض التي مثلت تاريخهم الحضاري ومصيرهم الأبدي، وتؤكد لهم أن القناع المزيف لن يكسب صاحبه إلا ملامح مشوهة، وأنه أداة من أدوات الانهزامية والتسليم التي يجب الترفع عنها.

فيفي محمود

صحفية وكاتبة روائية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock