صحف وتقارير

قمة شرم الشيخ للسلام…  بين أمل يُولد في العاصفة وشكٍّ يتجذّر في الذاكرة

بقلم د/سماح عزازي

 

في صباحٍ غمرته شمس أكتوبر، احتضنت مدينة شرم الشيخ المصرية مشهدًا جديدًا من مشاهد التاريخ، حين تداعت وفود الدول من الشرق والغرب، تحمل بين أيديها أوراقًا للسلام، وأخرى لم تُفصح عن خفاياها بعد.

تحت شعار “السلام من أجل الإنسانية”، اجتمع القادة في القاعة الزجاجية المطلة على البحر الأحمر، علّهم يجدون في أمواجه العميقة صدى لما يبحثون عنه منذ عقود: سلامٌ حقيقي، لا سلام المراسم والبيانات.

 

كانت القمة التي دعا إليها الرئيس عبد الفتاح السيسي، وشارك فيها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، محاولة جديدة لإحياء الأمل في أرضٍ أنهكها الدم والدمار. جاءت بعد هدنةٍ هشة في غزة، وبعد حربٍ تجاوزت الحدود والمعايير، لترسم سؤالًا واحدًا أمام العالم:

هل لا يزال في الشرق الأوسط مكانٌ للحلم بالسلام؟

 

شرم الشيخ… عاصمة الأمل المتجدّد

منذ عقود، كانت شرم الشيخ مسرحًا لاجتماعات كبرى، وها هي اليوم تعود لتحتضن قمة السلام التي وُصفت بأنها أخطر وأهم من سابقتها، لأنها لا تبحث في النصوص فقط، بل في بقاء الإنسان الفلسطيني نفسه.

 

الأجندة التي حملها المؤتمر لم تكن مجرد بيان نوايا، بل مشروعًا متكاملًا لإدارة ما بعد الحرب:

 

وقف دائم لإطلاق النار بضمانات دولية.

 

إطلاق متبادل للأسرى والرهائن.

 

إنشاء سلطة انتقالية في غزة من شخصيات تكنوقراطية محايدة تحت إشراف دولي وعربي.

 

إرسال قوة حفظ سلام تشرف على تنفيذ البنود وتمنع انهيار الهدنة.

 

وأخيرًا، التحضير لمفاوضات الحل النهائي التي تُعيد تعريف الدولة الفلسطينية وحدودها، ودور القدس فيها.

 

لكن بين الأوراق الممهورة بالتواقيع، ظلّ السؤال القديم يطفو كالأمواج:

من يضمن أن لا يتحول السلام إلى صفقةٍ جديدة، وأن لا تُذبح القضايا العادلة على مائدة السياسة؟

 

الغياب الذي قال الكثير

رغم الزخم الإعلامي والسياسي، غاب عن القمة وجهان لا يغيبان عن الصراع: إسرائيل وحماس.

غياب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو — الذي برّره بعيدًا دينيًا — بدا للبعض انسحابًا تكتيكيًا من التزامات قد تُفرض عليه لاحقًا، بينما غياب حماس كشف عن شرخٍ عميق في مسألة التمثيل الفلسطيني، وتخوّفٍ من أن يُدار مصير غزة دون حضور أبنائها.

 

هذان الغيابان جعلا من القمة مشهدًا رمزيًا مزدوجًا:

سلامٌ يُصاغ في غياب المتحاربين، وقراراتٌ تُتخذ على طاولةٍ لا تضمّ أطراف النزاع مباشرة.

ورغم ذلك، حمل الحضور الدولي — من تركيا إلى قطر، ومن فرنسا إلى الإمارات — ثِقلاً سياسيًا لا يُستهان به، وعبّر عن رغبةٍ حقيقية في كبح الانفجار الإقليمي قبل فوات الأوان.

 

مصر… ركيزة الاتزان وصوت العقل

في وقتٍ تزدحم فيه الساحات بالأصوات المتصارعة، تبقى مصر الثابت الوحيد الذي يحاول الجمع لا التفريق، والوساطة لا الوصاية.

منذ بدايات الأزمة، كان الموقف المصري يتسم بالوضوح: السلام لا يكون إلا بعد العدالة، ولا عدالة بلا دولة فلسطينية ذات سيادة.

لهذا جاءت قمة شرم الشيخ لتؤكد أن القاهرة لا تزال تمسك بخيوط اللعبة السياسية، وأنها — رغم الضغوط الهائلة — قادرة على قيادة حوارٍ يوازن بين المصالح الدولية وحقوق الشعب الفلسطيني.

 

غير أن التحديات أمام القاهرة جسيمة:

 

الضغوط الأمريكية والإسرائيلية الساعية لفرض صيغة أمنية قبل أي حديث عن السيادة.

 

الانقسامات الفلسطينية التي تجعل من أي اتفاق هشًّا قابلًا للانهيار.

 

التنافس الإقليمي بين قوى ترى في الملف الفلسطيني ورقة نفوذٍ أكثر منه قضية إنسانية.

 

ومع ذلك، فإن مصر، بتاريخها وثقلها، تدرك أن سقوط عملية السلام يعني انفجار المنطقة كلها، وأن شرم الشيخ ليست مجرد مدينةٍ على الخريطة، بل رمزٌ لاستمرار الدور العربي حين يغيب الآخرون.

 

الفرصة الأخيرة؟

المحللون يرون أن هذه القمة قد تكون الفرصة الأخيرة قبل انزلاق المنطقة إلى فوضى شاملة.

فإذا نجحت في تثبيت وقف النار وإطلاق عملية سياسية واقعية، فستُسجَّل بوصفها أول خطوة عملية نحو إنهاء الصراع منذ اتفاق أوسلو.

أما إذا فشلت — كما فشلت سابقاتها — فستتحول إلى مجرد محطةٍ أخرى في أرشيف الخيبات، وستُضاف إلى قائمة المؤتمرات التي لم تُثمر سوى عن مزيدٍ من التعقيد.

 

لكن ما يميّز قمة شرم الشيخ هو أنها جاءت من قلب المعاناة، لا من مكاتب التفاوض. جاءت بعد حربٍ لم تترك بيتًا في غزة إلا وارتجف، ولا أمًّا إلا وذرفت دموعها على أطفالٍ صاروا أرقامًا في نشرات الأخبار.

لهذا فإن الأمل هذه المرة لا يأتي من القادة وحدهم، بل من الناس أنفسهم — من الأمهات، والجرحى، والمشردين الذين ينتظرون أن يُقال لهم يومًا: انتهى الكابوس.

 

حين يتكلم البحر

في المساء، حين غابت الشمس خلف جبال سيناء، كان البحر في شرم الشيخ يهمس بلغةٍ لا يسمعها إلا من عرف ثمن السلام.

قال البحر: إن السلام لا يُمنح على الورق، بل يُزرع في القلوب.

وقال أيضًا: إن التاريخ لا يرحم من يفرّط في الأوطان، ولا ينسى من يسعى بصدقٍ لإحيائها.

 

قد تكون قمة شرم الشيخ للسلام بدايةً جديدة، وقد تكون مجرد فصلٍ آخر في كتابٍ لم يُغلق بعد.

لكن ما هو مؤكد أن العالم كله يراقب شرم الشيخ اليوم — لا لأنها مدينة ساحرة على البحر الأحمر، بل لأنها تحاول، مرة أخرى، أن تُعيد للإنسانية صوتها وسط ضجيج الحرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock