
يبدأ يوم القاضي في مصر غالباً بعبارة مألوفة: “في تمام الساعة كذا تُعقد الجلسة”…
وعادة وبعد انتهاء الجلسات، يُفترض أن يعود القاضي إلى بيته مرتاح الضمير بما قضى وحكم، أو على الأقل يذهب إلى استراحة مريحة، في نادي القضاة، حيث يرفع عن كاهله ثقل الجدل القانوني والاتهامات والدفاعات المتشابكة.
لكن المفاجأة -التي لم تعد مفاجأة- أن بعض هذه الاستراحات تُختم بمشهد لا يتوقّعه أحد، فمرة شاهدنا رجلا يشرع في قتل زوجته في أروقة المحكمة بسبب نطق قاضٍ بحكم لم يعجبه، وتارة نسمع عن موظف في النيابة يلقي بنفسه من شرفة محكمة ههيا…
وأخيرا وليس آخرا نرى القاضي نفسه، قضى في استراحة كانت معدّة للراحة فقط، وبسلاحه الشخصي المسموح به “لأسباب أمنية”، وكأن قوانين الحماية لم تستطع أن تحمي نفسه هو “رجل العدالة”.
وإذا صدقت الأرقام فإن مصر احتلت المركز الأول عربياً في العام 2016 ليس في عدد الأبحاث العلمية التي تسعد البشرية بل بعدد الأرواح التي أزهقت انتحارا، وفي العام الماضي بلغ عدد من قضوا انتحارا في محافظات المحروسة 216 شخصا.
وكانت الغالبية العظمى من الضحايا هم من الرجال، وكأنّ النوم الثقيل في “ليالي الكبت” صار حقا مشاعاً لكل من يملك حساباً بنكياً فارغاً، أو رصيفاً متصدعاً تحت قدميه.
إذا الانتحار في مصر ليس مستغرباً، ولكن العجيب هذه المرة بعد أن رأينا قاضيا يزهق روح زوجته ودفنها والسير في جنازتها، قبل أن ينفضح أمره ويُعدم هو وشريكه، أن نجد قاضياً يُفترض أنه يملك من السكينة ما يكفي لحمل لقب قاضٍ، يُفضّل في لحظة أن يودّع الحياة؛ ليس كمدين أو فقير، بل كقاضٍ.
وربما يتساءل أحد لماذا لا تذهب هذه النفس المضطربة إلى البحر، أو إلى نافذة مفتوحة، بدلاً من استراحة القضاة؟
الإجابة قصيرة لأن القاضي يحمل سلاحًا رسمياً وبالسلاح يفكر بسرعة، لا حاجة لحساب المسافة إلى الأرض، أو التفكير في سقوطٍ كارثي رصاصة واحدة، ومشهد النهاية العاجلة.
وهكذا يصبح سلاح القاضي ليس وسيلة للحماية، بل أحيانا للفرار.
فرار من الذات أولاً، ومن ضغوط الحياة التي لا تميّز بين صاحب جلابية وربطة عنق.
ولذا، حين نسمع أن الضغوط المالية هي السبب الرئيسي للانتحار، نشعر بتلك الصدمة الطويلة؛ فكيف لقاضٍ أن ينهار أمام ضغوط الحياة؟ ألم يُدرس القانون طويلاً؟ ألم يصغ أحكاماً لشكاوى بيئية، مالية، جنائية؟ ثمّ فجأة يُصبح هو قضية نائمة؟
إنها القسوة الكبرى أن تأخذ من العدالة متنفسًا، ومن القاضي أمانة، ثم تُسلب منه الروح قبل أن يُسلب من الشعب حقّه في حكمٍ عادل.
في هذا الزمن، لا يُغيب الانتحار إلا ليقع مجدداً صباح كل يوم، على صفحات الأخبار؛ رجال ونساء، شباب وكهول، فقير وغني، متعلم وغير متعلم، ثم القاضي الذي يرتدي رداء العدالة.
لكن ما الأدهى.. الأدهى أن المجتمع يقرأ الخبر، يهمس في ظهر آخر، ثمّ يعود للبحث عن تفاصيل الجناية القادمة.
والسؤال لماذا لا نفسر الانتحار كجريمة جماعية، ارتكبها مجتمع مضغوط لا فرق فيه بين قاضٍ ومتهم، مجتمع يُغرق الناس بمطالب تنهار قواهم بمجرد التفكير في طرق تدبيرها.
لا نبرر الانتحار، ولكن لندرك أن السلاح في يد القاضي ليس فقط وسيلة دفاع، بل كان صرخة أخيرة من رجل مات ودفن قبل أن يغيب.
خلاصة القول:
إنّ الانتحار ليس مفخرة، ولا خروجاً “بطوليًا” من ضغوط الحياة، إنه فشل جسيم لنا جميعًا كمجتمع، كمواطنين، كأصدقاء، كعائلات.
إذا كنت أنت أو تعرف أحداً يمر بضيق نفسي أو اكتئاب، ففكر سريعاً في طلب المساعدة من الأصدقاء، العائلة، أو متخصص في الصحة النفسية، فلكل نفس الحق في الحياة، وإن اختارت رغماً عنها الموت انتحاراً.



