مقالات وآراء

محاكمةُ أمنية: حين أراد تركي آل الشيخ أن “يُعيد كتابة حضارة مصر”

بقلم: محمود سعيد برغش

في لقاء تلفزيوني مع الإعلامي عمرو أديب، صرّح تركي آل الشيخ قائلًا:

“نفسي قبل ما أموت أعمل فيلم عن الحضارة الفرعونية وأكشف للعالم حقيقتها.”

وأضاف أنه يرى أن بعض الأفلام السابقة “زوّرت التاريخ المصري”، وأنه يطمح لإنتاج عمل يكشف ما سماه بـ”الحقيقة الخفية”، واختار المخرج المصري مروان حامد ليكون مخرج المشروع.

وبحسب ما تداولته الصحف المصرية الكبرى مثل المصري اليوم، فإن التصريح صحيح، لكنه لم يتجاوز مرحلة الأمنية أو الفكرة، إذ لا يوجد حتى الآن أي إعلان رسمي عن بدء تنفيذ الفيلم أو تفاصيل إنتاجه.

من حق أي إنسان أن يحلم، لكن من الخطر أن تتحوّل الأحلام إلى وصاية فكرية على هوية أمة.

الحضارة المصرية ليست فيلمًا دعائيًا، ولا لوحة استعراضية تُقدَّم في موسم الجوائز.

هي تاريخ إلهي عظيم، يشهد له القرآن الكريم والأنبياء والرسل.

قال الله تعالى:

﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: 36]

أي لا تتبع ما لا تعلمه، ولا تخض في أمرٍ بجهل، لأن الكلمة قد تهدم ما تبنيه القرون.

ومن يتحدث عن “تزوير” الحضارة المصرية دون دليلٍ علمي أو مرجعية أثرية، فقد تجاوز حدود الأدب مع العلم والتاريخ.

مصر ليست موضوعًا يُكتشف، بل بلدٌ شهد له الوحي بالبركة والأمن.

قال الله تعالى:

﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ [يوسف: 99]

وقال سبحانه:

﴿فَإِنَّ لَكُمْ فِي مِصْرَ مَا سَأَلْتُمْ﴾ [البقرة: 61]

وقال رسول الله ﷺ:

“إذا فتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم نسبًا وصهرًا” (رواه مسلم).

هذه البلاد التي باركها الله لا تحتاج من أحد أن “يكشف حقيقتها”، بل تحتاج من أبنائها ومن يحترمها أن يحافظ على صدق روايتها.

قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن العاص حين ولّاه مصر:

“يا عمرو، استوصِ بأهلها خيرًا، فإنك إن عدلتَ فيهم أحبّوك، وإن ظلمتَهم أبغضوك.”

وقال عمرو بن العاص عن مصر:

“أرضها ذهب، ونيلها عجب، ورجالها لمن غلب.”

أما الفقهاء، فقد أجمعوا على أن رواية التاريخ واجبة بشرط الصدق والأمانة.

قال الإمام مالك:

“لا يُنكر من التاريخ إلا ما خالف الشرع.”

وقال ابن تيمية:

“العدل واجبٌ على كل أحد، ولو في حق من لا يحب، والظلم حرامٌ ولو على من يكره.”

فكيف يجوز لمتحدثٍ بلا علمٍ أن يغيّر وجه تاريخٍ كامل، ثم يدّعي أنه “يكشف الحقيقة”؟

من السهل أن تُعلن أمنيةً على الهواء، لكن الصعب أن تكون صادقًا في مقاصدها.

التاريخ لا يُدار بالشهرة ولا يُكتب على شاشات التريند، بل يُصان بالأمانة والعلم.

قال النبي ﷺ:

“كفى بالمرء كذبًا أن يحدّث بكل ما سمع.” (رواه مسلم).

فكيف بمن يتحدث عن تزوير حضارةٍ دون بحثٍ أو سندٍ علمي؟

الشرع لا يمنع الفن ولا يمنع صناعة التاريخ، بل يأمر بالحق والإخلاص.

قال الله تعالى:

﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الكهف: 29]

وقال النبي ﷺ:

“الدين النصيحة.” (رواه مسلم)

فمن أراد أن يُنتج فيلمًا عن الحضارة المصرية، فليُنتجه بعلم، وليُشارك فيه المؤرخون وعلماء الآثار المصريون، لا أن يختطف حق أمة في رواية نفسها.

يا من تقول “نفسي قبل ما أموت أعمل فيلم عن حضارة مصر”،

اعلم أن مصر لا تُختصر في فيلم ولا تُختزل في مشهد.

مصر نهرٌ من التاريخ لا ينضب، ومجدٌ لا يكتبه إلا من عاشه أو حفظه بصدق.

قال الله تعالى:

﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ [الرعد: 17]

والتاريخ، يا من تتحدثون عنه، لا يُكتب بالمال ولا بالإعلانات، بل يُخلَّد بالحق.

ومن أراد أن يكشف “حقيقة مصر”، فليبدأ أولًا بكشف نيّته أمام الله.

مصر ليست بحاجة لمن “يكتشفها”، بل إلى من يحترمها.

الحضارة لا تُكشف في فيلم، بل تُفهم في ضميرٍ صادقٍ يؤمن أن التاريخ أمانة، لا مادة إعلامية.

وستبقى مصر، بإذن الله، حقيقةً لا تُروى… بل تروي العالم كله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock