كتبت /منى منصور السيد
فى حديث مع الكاتب الأستاذ محمد عبد الشافى أوضح أن المؤرخ عبد الحليم عويس كان من الأشخاص الذين مَن لم يَحظَ بمعرفتة فقد ضاع نصف عُمره! ومَن لمْ يقرأ تراثه المكتوب؛ فقد ضاع عُمره كله!
فقد كان –يرحمه الله- يقرأ بأعصابه، ويكتب بأعصابه، كأنه في سباقٍ مع الزمن … يريد أن يقرأ كلَّ شيء، ويكتب كلَّ شيء قبل أن يترك الدنيا وما فيها، حتى يلقى اللهَ –سبحانه- وقد أدى رسالته نحو الأمة ومستقبلها!
وبالفعل، فقد اجتهد ما وسِعه الاجتهاد في البحث عن جرعةٍ دواء ثقافيــة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وعلاج التشوّهات الفكرية والإصابات التي اخترقت وجدان الأمة، وأودتْ بها في مجاهل السبل!
وفي ظنّي أنه –رحمه الله- ما تركَ مخطوطةً ولا مَرجعاً إلاَّ واستفاد مِمَّا فيه من طروحاتٍ علمية، وقد دخلتُ عليه –ذات مرة- فوجدتُه عاكفاً على قراءة كتاب “جحــا الضاحك المُضحِك” للمرحوم/ عباس العقّــاد!
بلْ كان يتصفّح الجرائد والمجلات بنهمٍ شديد، كأنه سيُعقد له امتحان فيما ورد فيها من أخبار وتقارير وحوارات … وقد كان يصرخ في وجهي قائلاً: أين جريدة كذا .. وأين مجلة كذا .. لا تأتي إليَّ بدونها !!!
وما زلتُ أقول: الحمد لله، أنّني اقتربتُ من -أستاذنا- وقرأتُ جميع مؤلفاته، وأفدتُ من عِلمه الغزير وثقافته المتنوعة، ما جعلني ألاَّ أتهيّب الخوض في المجادلات ذات الأبعاد التاريخية!
نعم، لقد تعلمتُ منه فن المبارزة، وإلجام الخصم وإفحامه بالضربة القاضية … فقد كان فارساً فذاً، ومقاتلاً لا تَلين له قناة!
ذات مرة، ألقيتُ محاضرةً في المركز الإسلامي بـ”عاصمة الضباب”، فإذا بشاب يمسك بثيابي، ويسألني: مَن أنت؟ وما هي بلدك … ثمَّ قال لي: هذا الكلام الذي ألقيتَه علينا هو من كلام الدكتور عويس! فقلتُ له: أنا مِن بلده، ومِن تلامذته أيضاً … فابتهج كثيراً، وصِرنا بعدها أصدقاء، وقد أخبرني أنه يعمل أستاذاً بجامعة كمبردج!!
لذا؛ كلّما ذُكِر اسمه أمامي، أقول: ليسَ كلّ سبّاحٍ غوّاص، وليس كلّ غوّاصٍ كالدكتــور عويس وقدرته على استخراج اللؤلؤ والمرجان!
فقد غاص -رحمه الله- في أعماق التراث الإسلامي، واستخرج منه الجواهر والكنوز التي غابت عن كثيرين من الكُتاب! وما مِن كتابٍ مِن كُتبه إلاَّ وهو كنز نادر، وجوهرة ثمينة، ربِح مَن عثَر عليها، وفاز فوزاً عظيما.
* ذات مرة، سألته عمّا وراء أزمة المسلمين الحضارية؟ فتنفّسَ نفساً عميقاً، ثمَّ قال: “كل العلل والأمراض التي أصابت أمتنا إنما هي أعراض ونتائج تقف وراءها أسباب عميقة تتصل بتكوين العقل المسلم والنفس المسلمة والوجدان المسلم، بعدما دخلنا في عصور التخلف والانفصال عن حقائق الإسلام في المجال الاجتماعي. إننا في حاجة إلى الوقوف العميق المتأني عند أصل الداء، وهو مستوى الأعماق التي زُيِّفت وحُرّفت واختلطت فيها العناصر، وأصبح مركبها متناقضاً، ولا يسمح بالفاعلية والانسجام، ومِن هنا يمكن أن نفهم الخطاب الرباني المجيد: “إنَّ اللهَ لا يُغيّر ما بقومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم”. إذن، فنقطة البداية الصحيحة في تغيير واقع المسلمين تنحدر عند مستوى فقه المسلم لدوره، كما أرده اللهُ منه، وفقههِ لسُنن التغيير والنهضة، في المستوى الاجتماعي والكوني”!
* وسألته –أيضاً- عن سِر نجاح “الجوامع”، وفشل الجامعات الحديثة؟!
فقال: هذا كلام صحيح، فمِن مسيرتنا الحضارية نحو صناعة التقدم، وسبقِنا في بناء “الجامع الأزهر” و”جامع الزيتونة” و”جامع القرويين”؛ كانت صناعة الإنسان هي الشغل للمربّيين والمعلّمين والدعاة والوعّاظ -وكما كانت الجاهلية تحتفل بميلاد شاعر لاعتبارات خاصة بها- فقد أصبح ميلاد داعية فقيه أوْ مُحدّث أو فيلسوف عملاً من أعظم الأعمال، ولم نعرف إلاَّ في عصور الهوان تخريج الفقهاء أو علماء الكلام أو المحدثين أو الوعاظ فحسب، بل كان كل هؤلاء يتخرجون “دعاة” قبل أن يتخصصوا في أيّ فنٍ يريدون.
لذلك؛ نجحت “الجوامع” ولم تنجح “الجامعات” الحديثة -حتى الإسلامية منها- في تخريج نسبة المفكرين والدعاة المعقولة، حيث تعرض خريجوها لهذه السلبيات الحضارية.
أيضاً، نجد الجامعات الحديثة خضعت للمنهج السائد في عصور التخلف فتأثرت بالمجتمع، وسمحتْ بالفصل بين الشخصي والاجتماعي، والقول والفعل، والعقل والعاطفة.. فكانت الثمرة هي إهمال بناء “الإنسان” الذي هو ألف باء حضارة وتقدم. وكان خريج الجوامع يَخرج بشعور من المسئولية يَحس معه أنه ممثل لعقيدة عظيمة وأمة ذات رسالة عالمية، وكان يشعر بأن عليه أن يبدأ بدفع الثمن لأمته التي وفرت له وسائل التربية، ولدينه الذي أشعره بوجوده وإنسانيته. أمَّا خريج “الجامعات” في عصرنا، فتبدأ رحلته مع الضرورات اليومية بعد تخرجه، وهو يحس بأن نبوغه يجب أن يسخّر في سبيل تحقيق هذه الضرورات. وأنا أرى أنه لابدَّ لإنسان الجامعات أن يعانق إنسان الجامع من جديد، ولابد أن يربَّى على الكيفية الدقيقة التي يجب أن يتعامل مع الدنيا على أساسها، ولابدَّ أن تلتحم الآخرة بالدنيا وتتحرك الدنيا في أعماقه نحو غايتها العليا.
* بلْ استمع إليه وهو يُحدّثنا عن عُمر الحضارة الإسلامية ودورتها عبر التاريخ، إذْ يقول: “الحضارة الإسلامية هي حضارة ذات مسؤولية تاريخية باقية “وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس”. وإنَّ بناء الحضارة الإسلامية القائم على أسس التصور الإسلامي سيجعل الإنسان المسلم قادراً دائماً على أن يجدد خلاياه، وأن ينبعث من جديد بروح جديدة وكأنه ولد من جديد. ومِن خلال الرماد المتناثر، والمتمثل في أوضاع جاهلية كثيرة وصور عديدة من التحلُّل؛ يمكن أن تشتعل الفكرة الإسلامية التي هي “زيت” الحضارة الإسلامية، وتتمكن من إشعال “فتيل” الحضارة الإسلامية المنطفئة في الإنسان المسلم”!
* وقد أولى –يرحمه الله- مدينة “القدس الشريف”، مكانةً خاصة في أحاديثه ومؤلفاته … وكان هذا هو رأيه: “أعتقد أنَّ القدس لو بقيتْ هكذا، لكفيل بأن يصيب حضارة العصر نزيف رهيب وبأن تحدث خلخلة كبرى في مقاييس الوجود والتحضر.. ونحن نرى أن العرب والمسلمين هم أول من ننبّههم، لأنهم أصحاب الحق، ولأنهم المسئولون مسؤولية دينية وتاريخية عن عودة القدس، ولا يشفع للمسلمين في تقصيرهم إزاء غفلة الضمير العالمي والتواطؤ السياسي والعسكري مع الصهيونية. فإنَّ حركة التاريخ التي تخضع لسنّة الله في الحق والعدل لن تظل سائرة في طريقها المنحرف .. إنها لابد أن تعود إلى طريقها الذي يريده الله. ولابدَّ أن تعود القدس إلى أصحابها الشرعيين، وإلاَّ فإن حضارتنا الظالمة لن تفلت من مصير كل الحضارات التي خالفت سُنة الله في الحقّ والعدل، فهوتْ في معترك الدمار والاندثار”!
هذا هو أستاذنا الشيخ (عبد الحليم عويس) كما عرفتُــه!
ذلكم الأستاذ الكبير … رحماتُ اللهِ عليه ورضوانه إلى يوم يُبعثُ حيّا