
الحمد لله الذي جعل حب الوطن أمرا فطريا والصلاة والسلام على من أرسله الله تعالى رسولا ونبيا وعلى آله وصحابته والتابعين لهم في كل زمان ومكان، أما بعد ذكرت المصادر الإسلامية الكثير عن الملك العادل ذي القرنين، وإن من الفوائد من ذكر قصة ذي القرنين هو ذكر الفوائد الفقهية، فالفائدة الأولى هو مشروعية حبس أهل الفساد وإيقاف فسادهم، فقال الله تعالى ” فهل نجعل لك خرجا علي أن تجعل بيننا وبينهم سدا ” وقال القرطبي في هذه الآية دليل على إتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدون، ولا يتركون وما هم عليه، بل يوجعون ضربا ويحبسون أو يكلفون “ينكلون” ويطلقون كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن ذا القرنين بنى سدا حبس يأجوج ومأجوج عن الخروج للإفساد، قالوا وكذلك من هو معروف بالإفساد.
يخرج من بيته للإفساد يخرب بين اثنين، بين جارين، بين زوج وزوجته، بين أب وابنه، يخرب علاقات تجارية بين شريك وشريكه، هذا يفسد فقط، يتلف يعتدي يغتصب، قالوا هذا يسجن إذا ما يندفع شره إلا بالسجن يسجن، واعلموا أن العقوبات في الشرع أنواع منها الحدود والقصاص والتعزيرات، والحبس نوع من التعزيرات وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، وأما الفائدة الثانية هو مشروعية الجعالة للقيام بالمهام من الأعمال، والجعالة لغة وتعريفها شرعا بأنها التزام عوض معلوم، على عمل معيّن معلوم، أو مجهول يعسر ضبطه، وقد دل على جوازها الكتاب والسنة والإجماع، فمن الكتاب قوله تعالى ” ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم ” وقال ابن كثير قوله ” ولمن جاء به حمل بعير ” هذا من باب الجعالة، فذكر الله الجعالة في شرع من قبلنا ولم ينكرها.
فدل على جوازها، ومن الإجماع هو قول ابن قدامة وجملة ذلك أن الجعالة في رد الضالة والآبق وغيرهما جائزة، وهذا قول أبي حنيفة، ومالك والشافعي، ولا نعلم فيه مخالفا، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك، فإن العمل قد يكون مجهولا، كرد الآبق والضالة ونحو ذلك، ولا تنعقد الإجارة فيه، والحاجة داعية إلى ردهما، وقد لا يجد من يتبرع به، فدعت الحاجة إلى إباحة بذل الجعل فيه، مع جهالة العمل، وكما أن من الفوائد من ذكر قصة ذي القرنين هو ذكر الفوائد في باب المعاملات، حيث أن القرآن الكريم مليء بالكنوز لمن تأمله، وتمرس الغوص في معانيه، وهو كالبحر الزاخر بالياقوت، كلما غصت في معانيه، كلما ظفرت بالمعاني السامية، والمعارف العالية الرفيعة، التي تنظم حياة العباد، وتهديهم إلى الرشاد، والمتأمل في قصة ذي القرنين يجد أنها قد إشتملت على أمرين مهمين.
في تنظيم أمور العباد والبلاد، ألا وهما أسس القيادة الناجحة، وبيان القرآن في إستعمار البلاد، وبيان ذلك هو أن أسس القيادة الناجحة من قصة ذي القرنين، هو أن ذو القرنين نموذج رائع ومثال واقعي للقائد الراشد، والحاكم العادل، والفاتح المؤيد، الذي يمكنه الله في الأرض، وييسر له الأسباب فيبلغ مشارق الأرض ومغاربها فلا يتجبر ولا يتكبر، ولا يطغى ولا يتبطر، ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للكسب المادي، وإستغلال الأفراد وإبتزاز الشعوب، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه، وإنما ينشر العدل في كل مكان يحلّ به، ويساعد المتخلفين المستضعفين، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التغيير والإصلاح، ودفع العدوان وإحقاق الحق.



