لم تعد القوة العسكرية فى الشرق الأوسط تُقاس فقط بحجم التسليح أو عدد الوحدات القتالية بل باتت تبنى على أساس أكثر عمقًا يتمثل في امتلاك العقيدة القتالية والخبرة الميدانية والقدرة على صناعة كوادر أمنية محترفة قادرة على التعامل مع التهديدات المركبة وفي هذا السياق تبرز مصر كأحد أهم مراكز الثقل الإقليمي في مجال التدريب العسكري ونقل الخبرات وبناء الجيوش الوطنية
بعد أشهر قليلة من خضوع قوات خاصة عراقية لبرامج تدريب متقدمة داخل مصر نفذت قوة عراقية عملية نوعية معقدة شملت إنزالًا جويًا داخل الأراضي السورية يوم الخميس 18 ديسمبر 2025 في تطور لافت يعكس نتائج هذا التعاون العسكري
وبحسب البيانات الرسمية الصادرة عن الحكومة العراقية نُفذت العملية بواسطة خلية الصقور الاستخبارية التابعة لوكالة الاستخبارات والتحقيقات الاتحادية بوزارة الداخلية العراقية واستهدفت إلقاء القبض على عنصرين مطلوبين للقضاء العراقي في منطقة شمال شرقي سوريا بمحافظة الحسكة على مسافة تقارب عشرة كيلومترات داخل الحدود السورية وذلك بالتنسيق مع قوات الأمن السورية وبإسناد فني من التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب
أهمية هذه العملية لا تكمن فقط في نجاحها الأمني بل في دلالاتها الاستراتيجية خاصة أنها جاءت بعد برامج تدريب متخصصة خضعت لها وحدات عراقية داخل مصر ضمن رؤية واضحة لتقوية الجيوش الوطنية في مواجهة التنظيمات الإرهابية والميليشيات العابرة للحدود
التدريب المصري للقوات العراقية جرى في إطار برامج شاملة لرفع الكفاءة القتالية وسد الفراغ الأمني الذي أعقب انسحاب بعض القوات الدولية من مراكز المدن العراقية خلال عام 2025 وشمل تدريب القوات الخاصة لا سيما وحدات المظلات والصاعقة حيث تم تدريب الفوج الأول للقوات الخاصة اللواء 65 والفوج الثالث للقوات الخاصة
وتضمن البرنامج التدريبي دورات متقدمة في مدرسة المظلات المصرية شملت القفز المظلي والإنزال الجوي إلى جانب تدريبات مكثفة في مدرسة الصاعقة المصرية على الاقتحام والعمليات الخاصة والإنزال الجبلي بما أسهم في تأسيس نواة قوة مظلات عراقية جديدة مستفيدة من الخبرة المصرية المتراكمة في مواجهة التهديدات الأمنية غير التقليدية
هذا الدور لا يقتصر على العراق فقط بل يندرج ضمن رؤية مصرية أوسع لتقوية الدول الوطنية وجيوشها باعتبارها حجر الزاوية في تحقيق الاستقرار الإقليمي وهو ما يتجلى بوضوح في الحضور المصري المتنامي داخل القارة الأفريقية
مؤخرًا أعلن المتحدث العسكري للقوات المسلحة المصرية عن تنفيذ برامج تدريبية لقوات شرطية وأمنية خاصة من دول أفريقية في إطار دعم الأمن والاستقرار بالقارة وشملت هذه البرامج دورات متخصصة لتأمين الشخصيات الهامة نُفذت خلال ديسمبر 2025 داخل وحدات إدارة الشرطة العسكرية المصرية
كما يواصل مركز القاهرة الدولي لتسوية النزاعات وحفظ السلام دوره في إعداد وتدريب عناصر عمليات حفظ السلام بما في ذلك العناصر النسائية قبل انتشارها ضمن بعثات الأمم المتحدة في مناطق النزاع الأفريقية مثل الكونغو ومالي وأفريقيا الوسطى
إلى جانب ذلك تلعب وزارة الداخلية المصرية دورًا محوريًا في تعزيز القدرات الشرطية الأفريقية من خلال أكاديمية الشرطة التي نظمت خلال ديسمبر 2025 دورات متخصصة في مكافحة الجريمة المنظمة وشبكات تهريب المهاجرين لعناصر أمنية من عدة دول أفريقية ضمن برامج تعاون أمني مدعومة من منظمات دولية
وفي السياق نفسه أعلن وزير الخارجية المصري خلال عام 2025 عن بدء تنفيذ خطة لتدريب نحو خمسة آلاف عنصر من الشرطة الفلسطينية داخل المعسكرات المصرية تمهيدًا للقيام بمهام أمنية مستقبلية داخل الأراضي الفلسطينية وقطاع غزة في إطار رؤية تستهدف بناء مؤسسات أمنية وطنية قادرة على فرض الاستقرار بعيدًا عن منطق الميليشيات
الجدل التقليدي حول ما الذي تحققه مصر من تدريب ودعم جيوش أخرى يتجاهل حقيقة أن التدريب العسكري يُعد إحدى أدوات النفوذ الاستراتيجي التي تستخدمها الدول الكبرى لصناعة تأثير طويل الأمد يتجاوز نقل المهارات القتالية إلى صياغة العقيدة العسكرية وبناء شبكة علاقات مع النخب الأمنية والعسكرية في الدول الشريكة
من خلال هذه البرامج تنقل مصر مفاهيمها العملياتية وتكتيكاتها القتالية ما يخلق درجة عالية من التوافق والقدرة على العمل المشترك بين القوات المختلفة وهو ما يعرف بقابلية التشغيل البيني كما تؤسس علاقات ممتدة مع قادة عسكريين يمثلون نواة القيادات المستقبلية في بلدانهم
بهذا المعنى لا تمارس مصر هيمنة ولا تدخلًا مباشرًا بل تبني نفوذًا ذكيًا قائمًا على الشراكة ودعم استقرار الدول الوطنية وهو نموذج يمكن توسيعه بشكل أعمق في ملفات التعاون مع ليبيا والسودان بما يخدم الأمن القومي المصري ويعزز الاستقرار الإقليمي في آن واحد