
بقلم: احمد شتيه
باحث فى الشأن الاستراتيجي والامن القومى
في عالم تتسارع فيه وتيرة الأزمات الإقليمية وتتنامى فيه التهديدات العابرة للحدود، تقدم مصر نموذجًا يُحتذى به في التعامل مع القضايا المصيرية، وتحديدًا في أزمة “سد النهضة” الإثيوبي، الذي يهدد شريان الحياة لنحو 100 مليون مصري ، بينما تبدو الخيارات العسكرية دائمًا مطروحة في عقول العامة كوسيلة سريعة للحسم، اختارت الدولة المصرية طريق الحكمة، واضعة نصب عينيها أن التهور قد يقود إلى كوارث إقليمية تفوق في مداها كل المكاسب المحتملة.
منذ إعلان إثيوبيا عن بناء السد عام 2011، اعتبرت مصر المشروع تهديدًا مباشرًا لحصتها التاريخية من مياه النيل وبرغم التعنت الإثيوبي وغياب الإرادة السياسية للتوصل إلى اتفاق عادل وملزم، لم تنزلق مصر نحو لغة السلاح، بل لجأت إلى منابر التفاوض، بداية من محادثات ثلاثية برعاية الاتحاد الإفريقي، مرورًا بمفاوضات واشنطن، ووصولاً إلى عرض القضية أمام مجلس الأمن الدولي.
وفي كل تلك المراحل، تمسكت القاهرة بخيار السلام القائم على القانون الدولي والاتفاقيات التاريخية، وحرصت على عدم تأزيم الوضع أكثر، إدراكًا منها بأن العمل العسكري، مهما بدا مغريًا لحسم النزاع، سيجر المنطقة إلى صراع مفتوح لا يمكن التحكم في نتائجه.
على النقيض من النهج المصري، يمكن النظر إلى العلاقة بين الهند وباكستان كنموذج للصراع المزمن الذي لا يكاد يخمد حتى يشتعل من جديد فكلا البلدين، المسلحين نوويًا، انخرطا في حروب مفتوحة ومناوشات متكررة، بسبب الخلاف التاريخي على إقليم كشمير وازمة مياه نهر السند التى طالما لوحت الهند بوقف تدفق المياه عن الجاره باكستان والتى وصلت الى نذير حرب نووية بين الجارتين وقد أدت هذه الحروب إلى آلاف القتلى، واستنزاف اقتصادي هائل، فضلًا عن حالة التوتر الدائم التي تعوق التنمية وتُعمّق الانقسامات.
ولو كانت مصر قد تصرفت برد فعل عسكري تجاه سد النهضة، ربما كنا اليوم أمام مشهد مشابه ، سباق تسلح في منطقة القرن الإفريقي، تدخلات خارجية، وخراب يعم دولًا تحتاج كل طاقاتها لتحقيق التنمية ومكافحة الفقر.
في المقارنة بين المسارين، يظهر بجلاء أن ضبط النفس والدبلوماسية ليست ضعفًا، بل شكل من أشكال القوة الاستراتيجية فمصر تدرك أن قوتها الحقيقية لا تكمن فقط في قدراتها العسكرية، بل في قدرتها على بناء تحالفات إقليمية ودولية، وفرض قضيتها باعتبارها مسألة أمن قومي وسلام إقليمي.
كما أن القاهرة، بتبنيها هذا النهج، تقدم نفسها كركيزة للاستقرار في منطقة مضطربة، وهو ما يزيد من ثقلها في ملفات أخرى، ويفتح أمامها آفاقًا أوسع للتعاون الدولي، خاصة مع القوى الكبرى التي تفضل دائمًا الشراكة مع دول عاقلة متزنة.
أزمة سد النهضة ليست مجرد صراع على المياه، بل اختبار حقيقي لقدرة الدولة على الموازنة بين الحقوق الحيوية والوسائل الحكيمة لتحقيقها وفي هذا السياق، أثبتت مصر أن الكبار لا يصرخون في وجه الأزمات، بل يعالجونها بثبات، بعيدًا عن الانجرار إلى صراعات عبثية قد تكلف الشعوب أكثر مما تكسبها.