مقالات وآراء

نحو الهدف

بقلم -مسعد حسني

العالم يقف احتراماً لمصر وها هي اليوم تُصَدِّق ما توقّعناه بالأمس، فلم يكن افتتاح المتحف المصري الكبير مجرد حدث سياحي عالمي بل إعلان مرحلة جديدة من الازدهار والتطور.

ولا أبالغ إن قلت أن ذلك يعد توصيفاً دقيقاً لمعنى حدث لا يتكرر كثيراً في حياة الأمم، فعندما تفتح دولة بوابةً بهذا الحجم، وبهذه الدلالة، وبهذا التعقيد الهندسي والثقافي والإداري، فهي لا تحتفل بقطع حجرية عتيقة، وإنما تعلن للعالم: أن جذورها ليست تراثاً جامداً، بل رأس مال استراتيجي قابل للتوظيف، وأن تاريخها ليس ذكرى تُمجِّد الأمس، بل طاقة تصيغ الغد.

مصر هذه المرّة لا “تعرض ماضيها”، وإنما تستثمره بصورة مبهرة.
وفي ذلك فرقٌ جوهري بين أمة تُحَنِّط الذاكرة، وأمة تُفعِّل الهوية.

المتحف الجديد بموقعه المواجه للأهرامات، ليس حجراً فوق حجر، وجناحاً إلى جوار جناح، إنه “منصّة” لإعادة صياغة العلاقة بين المصريين والحضارة التي شكّلت وجدانهم.
وهو “نافذة” لإعادة سرد القصة المصرية بلغة يفهمها العالم اليوم: لغة الصورة، والتكنولوجيا، والبراند، والاقتصاد القائم على القيمة المعرفية.

هذه ليست مصر التي تتلقى الزوّار في شباك تذاكر…
هذه مصر التي تستقبل العالم على منصة رؤية، وتمنحه “تجربة” تستند إلى بنية معلوماتية، ونظام، وتخطيط، وتنفيذ، وإدارة — كلها تحقّقت في مشروعٍ استغرق أكثر من عشرين سنة عمل.

وهنا بيت الرسالة:
القيمة ليست في ضخامة المبنى…
القيمة في ضخامة “العقل” الذي صمّم، وفكّر، وأدار، وربط، ونسّق، وأنجز.

المتحف الكبير خطوة “وعي دولة” لا مجرد “فعالية”.

ووعيُ الدولة هنا يتجلّى في ثلاث دوائر متوازية:

أولاً — الاستعادة الرمزية لهوية الإنسان المصري.
فالمصري الذي اعتاد أن يرى الأهرام كخلفية صورة سياح، سيجد نفسه هذه المرّة أمام تفسير جديد للمشهد:
لا هوية بدون سرد، ولا سرد بدون منصة، ولا منصة بدون مؤسسات تصنعها.

ثانياً — تحويل الإرث إلى أصول اقتصادية.
السياحة ليست زيارة فحسب. السياحة صناعة. والصناعة تبدأ بسؤال: هل نمتلك “المنتج”؟
الإجابة الآن: نعم — وبأعلى صيغ العرض الممكنة.
السائح القادم للمتحف لا يأتي للإبهار وحده، بل يتمدد إنفاقه في المطاعم، والفنادق، والبازارات، والنقل، والخدمات.
وبالتالي فالمتحف لا يفتح بوابة لقاعة… بل يفتح “سلسلة قيمة” تمتد على طول الجغرافيا الاقتصادية لقطاع السياحة.

ثالثاً — إعادة مصر إلى واجهة المشهد العالمي.
فالعالم ينسى من لا يحدّث روايته.
وحين تتوقف دولة عن تقديم نفسها… يتكفّل الآخر بتلخيصها.
اليوم لا يلخصنا أحد… اليوم نحن من يكتب التعريف.

هذا الافتتاح يضع أمام مصر سؤالاً آخر أهم: كيف نحافظ على المكتسب؟
والجواب هنا ليس في المبنى؛ بل في “منظومة الخدمة” التي ستتعامل مع السائح بعد أن يخرج من بوابة المتحف.

نحن بحاجة إلى:
• بنية انسيابية في الإجراءات
• سياسات مرنة في التأشيرة
• تدريب منتظم للعاملين في الفنادق والمطاعم والمطارات
• إعلام “يواكب” ولا يلهث، “يفسّر” ولا يصف فقط، “يبني” ولا يرصد وحسب

فالأثر الحقيقي لأي مشروع كبير ليس هيكله… بل حسن تشغيله واستدامته.

إن المتحف المصري الكبير ليس “حدثاً أثرياً”، إنه حدث سيادي — بالمعنى الوطني العميق.
وهذه ليست عودة إلى الماضي…
وإنما هي عودة بالماضي إلى المستقبل.

ولذلك فالمعنى الأبعد للحدث هو التالي:
مصر لا تعيد فتح أبواب الذاكرة، بل تعيد فتح أبواب العالم.

وما سيحدث خلال الأيام القادمة ليس مجرد عرض لمقتنيات، بل عرض لـ “قدرة دولة” على تحويل الحضارة إلى اقتصاد، والرمز إلى قيمة، والمادة التاريخية إلى قوة حضور.

هذه هي مصر… عندما لا تكتفي بعظمة الماضي، بل تصنع منها قوة المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock