مقالات وآراء

نهاية النهاية “

طارق غريب

طارق غريب يكتب : ” نهاية النهاية ”

عندما تصبح الديمقراطية أجمل كوابيسنا

لطالما كنا نخاف من الديكتاتورية التي تأتي بالدبابة والقمع والسجن والمنفى

تعلّمنا أن نراقب الرجل الواحد، والحزب الواحد، والجيش الواحد، والأيديولوجيا الواحدة

لكننا لم نكن مستعدين للديكتاتورية التي تأتي بالتصفيق، بالإجماع، بالابتسامة، بالنسبة ٩٧.٩٪ التي تظهر على الشاشة في أقل من ثلاثين ثانية

في عام ٢٠٢٥، لم تمت الديمقراطية الليبرالية بضربة واحدة

ماتت بالإرهاق، بالملل، باليأس من نفسها

الشعوب لم تعد تريد ” حقوقاً ” تُمارس مرة كل أربع أو خمس سنوات، ثم تتركها وحيدة تواجه التضخم والقلق والوحدة والمعنى المفقود

الشعوب أرادت شيئاً أقرب، أسرع، أدفأ : أرادت أن تُحكم نفسها بنفسها ، كل لحظة ، كل يوم ، حتى لو كان الثمن هو أن تتخلى عن ” النفس ” نفسها

لهذا السبب ولدت ” الديمقراطية الشعبية الكاملة العملية ”

ليس اسمها الرسمي في كل مكان ، لكنها هي نفسها في كل مكان :

في بكين تُسمّى ” الديمقراطية ذات الخصائص الصينية ”

في واشنطن تُسمّى ” الديمقراطية ٢ ”

في موسكو ” فوليا نارودا ”

في باريس ” الإرادة العامة الرقمية ”

كلها تقول الشيء نفسه بصوت أمومي هادئ :

” لا تخف ، لن نجبرك على شيء بعد اليوم

سنطرح الأمر عليك ، وعلى الجميع في اللحظة نفسها وستختار بنفسك ، وستختار دائماً ما نريده نحن

لأنه أصبح ما تريده أنت أيضاً

الأمر ليس مؤامرة سرية ، الأمر أسوأ من ذلك بكثير :

إنه اتفاق جماعي صامت و طوعي و سعيد

نحن لم نُهزم ، نحن استسلمنا

استسلمنا لأن الليبرالية لم تعد تقدم لنا معنى ولا أماناًولا انتماء

الديمقراطية غير الليبرالية تقدم لنا كل ذلك ، وبسعر رخيص

فقط عليك أن تتخلى عن فكرة أن رأيك الخاص قد يكون مختلفاً أو خاطئاً أو حتى موجوداً

في عام ٢٠٢٥ ، لم يعد السؤال : من يحكم ؟

السؤال الجديد هو : هل لا يزال مسموحاً لي أن أريد شيئاً لا يريده الآخرون ؟

إذا كانت الإجابة ” لا ” ، فتهانينا :

لقد وصلنا أخيراً إلى نهاية التاريخ الحقيقية

لكنها ليست نهاية فوكوياما التي وعدتنا بالليبرالية الأبدية

إنها نهاية ميشيل ويلبيك :

(الخضوع الطوعي ، الكامل ، المبتسم)

والأسوأ أننا لن نشعر بالأسف أبداً

سنكون سعداء جداً لدرجة أننا سننسى أننا كنا يوماً نعرف معنى كلمة ‘ حرية ‘.

ديسمبر ٢٠٢٥ ، قبل أن يصبح الكتابة بهذا الشكل جريمة تصوت عليها الأغلبية في أقل من ثانيتين.

باريس ، ١٧ أكتوبر ٢٠٣٥ ، الساعة ٢١:٤٣ ، ساحة الكونكورد

كان الجو بارداً ، لكن لا أحد يشتكي . الناس يقفون في صفوفٍ طويلة، هادئة ، منضبطة ، يرتدون معاطف رمادية متشابهة تقريباً ، يمسكون هواتفهم المربوطة بتطبيق ‘ الإرادة العامة ٤ فوق المنصة الزجاجية الضخمة ، يظهر وجه الرئيسة التنفيذية للجمهورية الفرنسية ، مدام ‘ كلير دُوالييه ‘ ، بابتسامة هادئة ، دافئة ، أمومية.

عزيزيّ الشعب الفرنسي

اليوم نُقرر معاً : هل نرفع نسبة الضريبة التصاعدية على الدخل فوق ٨٠٪ لتمويل برنامج ‘ الأمان الاجتماعي الشامل الجديد ‘ ؟ لديكم ستون ثانية للتصويت.

٩٦.٨٪ قالوا نعم قبل أن تنتهي الدقيقة.

الساحة انفجرت بالتصفيق . لم يكن تصفيقاً صاخباً ، بل منسجماً ، كأنه موجة واحدة تتحرك في اتجاه واحد.

رجل في الخمسين ، يرتدي بذلة رمادية أنيقة ، رفع هاتفه عالياً ليصوّر اللحظة ، ثم همس لابنته الصغيرة التي تقف بجانبه :

انظري يا حبيبتي ، هذه هي الديمقراطية الحقيقية. لم نعد نضيع خمس سنوات في انتظار انتخابات ، نُقرر كل يوم ، وكل ساعة إذا لزم الأمر.

في الزاوية ، تحت تمثال جان دارك الذي أُعيد طلاؤه بالذهبي الجديد ، كان هناك رجل واحد لم يصفق. لحيته بيضاء ، عيناه غائرتان ، يرتدي معطفاً قديماً من الصوف الأسود. كان يحمل كتاباً ورقياً حقيقياً ، غلافه متهالك : ‘ الخضوع ل ويلبيك ، طبعة ٢٠١٥. فتحه على صفحة محددة ، وقرأ بصوت منخفض لنفسه :

‘ سيأتي يوم يتخلى فيه الفرنسيون عن الحرية طوعاً ، ليس خوفاً من الموت ، بل خوفاً من القلق. ‘

رفع عينيه نحو الشاشة الضخمة. الرئيسة التنفيذية تبتسم له مباشرة ، كأنها تعرفه. ظهرت رسالة صغيرة على هاتف الجميع في الساحة :

‘ مواطن في القطاع ٧ يعاني من انخفاض مؤشر السعادة إلى ٦٢٪. هل نُرسل له فريق الدعم النفسي الآن ؟ ‘

٩٤.٣٪ وافقوا فوراً.

الرجل العجوز أغلق الكتاب ، وضعه في جيبه ، ثم رفع يده ببطء ، كأنه يصوت للمرة الأولى منذ عشرين سنة. لم يكن يصوت ‘ لا ‘ ، بل كان يرفع يده ليُظهر أنها لا تزال ترتجف.

في تلك اللحظة بالذات ، ظهر إشعار جديد على كل الشاشات شكراً لكم ، أيها الشعب.

القرار التالي بعد ١٧ دقيقة : هل نحظر الكتب الورقية غير المرخصة لأسباب بيئية وأمنية ؟

التصفيق عاد ، أعلى هذه المرة و أكثر دفئاً.

الرجل العجوز ابتسم ابتسامة صغيرة ، حزينة ، ثم بدأ يمشي بهدوء خارج الساحة. لم يلتفت أحد إليه. كانوا جميعهم منشغلين بفرحتهم الجديدة ، فرحة من يعرف أخيراً أنه لم يعد مضطراً لأن يختار بنفسه.

باريس ٢٠٣٥ ، الديمقراطية الشعبية الكاملة العملية

كل شيء يُقرَّر بالأغلبية ، ولا أحد يشعر أنه فقد شيئاً.

ساحة الكونكورد ، بعد دقائق قليلة فقط.

الرجل العجوز كان قد ابتعد عشر خطوات حين سمع صوتاً خلفه ، خفيفاً ، أنثوياً ، لكنه حازم : ‘ عفواً ، المواطن جان-ماري لوروا ؟ ‘ التفت.

فتاة في الثلاثين ، ترتدي الزي الرسمي الأزرق الداكن لـ ” فرق الدعم النفسي المجتمعي ” ، شعارها على الصدر :

قلب أبيض داخل دائرة خضراء. بجانبها شاب نحيل يحمل حقيبة طبية صغيرة.

نحن من القطاع ٧ ، مؤشرك انخفض إلى ٦١.٨٪ خلال الدقيقتين الأخيرتين. هل تسمح لنا بمرافقتك إلى أقرب مركز إعادة توازن ؟ لا يستغرق الأمر أكثر من عشرين دقيقة ، وستشعر بتحسن فوري.

ابتسم جان-ماري ابتسامة متعبة : وإذا رفضت ؟

الفتاة لم تتفاجأ. كان السؤال مألوفاً ، لكنه نادر جداً.

حينها سيُطرح الأمر على تصويت فوري في دائرتك السكنية الفرعية : ٨٤٧٣ مواطناً. في الشهر الماضي ، لم يرفض أحد التصويت الإلزامي إلا اثنان ، وحصل كلاهما على ٩٩.٤٪ موافقة على العلاج الإجباري الخفيف.

نظر إلى ابنة الرجل الذي كان يقف بجانبه قبل قليل ، تلك الطفلة ذات الثلاث عشرة سنة ، عيناها تلمعان بحماس حقيقي.

” بابا ، هل نصوت عليه الآن ؟ أريد أن أساعده! ”

الأب ربت على كتفها بحنان : بالطبع يا حبيبتي ، هذه هي الديمقراطية.

جان-ماري أخرج الكتاب الورقي من جيبه ، رفعه عالياً لثانية واحدة فقط ، كأنه يودع شيئاً : هل تعرفون ويلبيك ؟

الفتاة هزت رأسها بأدب : ” للأسف ، الكتاب غير مدرج في القائمة البيضاء منذ ٢٠٢٩. لكن لا تقلق ، بعد الجلسة ستفهم لماذا كان ضاراً بالسعادة العامة.

تنهّد العجوز ، ثم مد يده بهدوء : حسناً. لنذهب .

لستُ أريد أن أزعج الأغلبية.

اختفى الثلاثة في الزحام الهادئ ، وكأن شيئاً لم يكن.

باريس ٢٠٣٥

طارق غريب

مصر

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock