مقالات وآراء
“هدنة من اللاشيء”

فيفى سعيد محمود
في أعماق الليل، حين يغرق العالم في صمته الموحش، جلست ريما وسط غرفة خالية إلا من ضوء شاحب يتسلل عبر النافذة.
أفكارها كدوامات لا تتوقف، تلتهم لحظات السكون بلا رحمة.
قلبها كان كسفينة صغيرة تتقاذفها أمواج الذكريات والخوف، تهيم بلا ميناء، تبحث عن شاطئ للراحة.
كل نبضة كانت تحمل وجعاً مختلفاً، وكل نفس تجرع ألماً جديداً.
تراكمت بداخلها خيبات متتالية، كأنها قطع زجاج تنغرس في صدرها.
أرادت أن تهرب من كل شيء، أن تعقد هدنة مع عقلها، مع قلبها، مع هذا العالم الذي أرهقها، لكنها لم تكن تعرف كيف.
أغمضت عينيها وأخذت نفساً عميقاً، كأنها تحاول أن تبتلع الهواء دفعة واحدة.
شعرت بحرارة الدموع وهي تشق طريقها بصمت، تسقط على وجنتيها كاعتراف مؤلم بالعجز.
أردات أن تكون بلا وجع، بلا ذاكرة، بلا وجود… أن تكون لا شيء.
في تلك اللحظة، تسللت إلى ذهنها صورة وجه مألوف.
كان ذلك الشخص الذي أحاطها يوماً بحنان نادر. عيناه كانت تحمل دفء الشمس، وصوته كان كعزف خافت يطفئ نيران الخوف.
لكنها أطفأت ذلك النور بيديها، دفعت به بعيداً حين شعرت أن قلبها لا يحتمل المزيد من الاحتراق.
تذكرت كلماته الأخيرة، حين قال لها: “ليس الهروب هو الحل يا ريما ،الراحة التي تبحثين عنها لن تأتي إلا من داخلك.
دعيني أكون جزءاً من معركتك، لا تتركي نفسك وحيدة.
” لكنها كانت تخشى أن تُحرقه نارها، فاختارت أن تحترق وحدها.
الآن، في هذه العزلة، أدركت أنها لم تهرب من العالم، بل من نفسها.
وأدركت أنها تحتاج إلى شيء أكثر من مجرد هدنة… تحتاج إلى سلام ،سلام مع الخوف، مع الفقد، مع تلك الزوايا المظلمة في أعماق روحها.
نهضت بتردد، اقتربت من النافذة، وفتحتها على مصراعيها.
استقبلتها رياح الليل الباردة، كأنها تعانقها لتوقظ فيها شيئاً خامداً. لأول مرة شعرت أن الألم ليس عدواً، بل مرآة تعكس حاجتها للشفاء.
ابتسمت بسخرية خفيفة وهي تهمس لنفسها: “ربما أحتاج أن أسمح للنور أن يعود… ولو قليلاً.”