لم يكن الإعلام يومًا ساحة للهو أو الاستعراض، بل كان منبرًا للكلمة المسؤولة، وصوتًا للعقل والفكر والتنوير.
غير أن ما نراه اليوم على شاشات بعض البرامج يبعث على الأسى؛ مذيع يرقص أمام الكاميرا، وضيف يتمايل ضاحكًا، والجمهور يصفق، بينما تضيع هيبة المهنة، وتُهان عقول المشاهدين، ويُختزل الإعلام إلى مشهد هزلي لا يليق بقيمة الرسالة ولا بقدسية الكلمة.
لقد تحول بعض الإعلاميين من حملة رسالة إلى مقدمي عروض ترفيهية مبتذلة، تثير الضحك لا الفكر، وتُغري بالمشاهدة لا بالمعرفة. وبهذا، ضاع الهدف الأسمى من الإعلام: التوعية، والتثقيف، ونشر القيم.
حين يقف الإعلامي على الشاشة، فهو يمثل ثقافة أمة بأكملها. وحين يرقص أمام الجمهور، فإنه لا يرقص وحده، بل يسقط معه جزء من هيبة الإعلام ووقار الكلمة.
المشاهد الذي يبحث عن مضمون نافع، يُفاجأ بعرض لا يحمل سوى الفراغ، فيتساءل: أين الكلمة؟ أين الرسالة؟ وأين الأخلاق المهنية التي كانت تحكم أداء الإعلام في الماضي؟
يقول الله تعالى:
“وَقُلِ الْحَقَّ مِنْ رَبِّكُمْ” (الكهف: 29)،
فالإعلام الحق هو الذي يُقال فيه الحق، لا الذي يُقال فيه الهزل.
كما قال سبحانه:
“مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ” (ق: 18).
فكل كلمة أو حركة تُعرض على الناس، محسوبة على صاحبها أمام الله، قبل أن تُحسب في ميزان الشهرة أو المشاهدة.
قال رسول الله ﷺ:
“من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت” (رواه البخاري ومسلم).
فكيف بمن يتخذ من الكلمة وسيلة للضحك والتقليل من شأن الفكر والعقل؟
وقال ﷺ أيضًا:
“إن من البيان لسحرًا، وإن من الشعر لحكمة”،
أي أن الكلمة يمكن أن تكون طريقًا للإصلاح، لا أداة للتسلية الفارغة.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:
“تعلموا قبل أن تُسودوا”،
أي قبل أن تتصدروا للناس.
فكيف بمن يتصدر الشاشات دون علم أو مسؤولية أو أدب في القول؟
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول:
“الناس أبناء ما يُحسنون”،
فمن أحسن الكلمة نال الاحترام، ومن أساءها فقد أساء إلى نفسه وإلى أمته.
قال الإمام الغزالي رحمه الله في “إحياء علوم الدين”:
“اللسان آلة عظيمة الخطر، به يكون العبد في الجنة أو النار”.
فالإعلامي الذي يملك لسانه على الهواء، هو أمام امتحان دائم؛ إما أن يرفعه صدقه ورصانته، أو يُسقطه لهوه وضحكه الفارغ.
وقال ابن القيم:
“الكلمة مسؤولية، فإن كانت خيرًا رفعت صاحبها، وإن كانت باطلًا هوت به في مهاوي الذل”.
الإعلام الذي يخرج عن مقاصد الشرع، ويتحول إلى منصة للسخرية والرقص، يُعد تشويهًا للمنهج الأخلاقي الذي دعا إليه الإسلام، والذي يقوم على الجد، والصدق، واحترام العقول.
قال تعالى:
“وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ” (الحج: 30)،
وقول الزور لا يكون بالكذب فقط، بل أيضًا بتزييف الوعي وتقديم الباطل في ثوب المرح.
الإعلام رسالة لا مهنة عابرة، ومن يستهين بها لا يُدرك أنه يُسهم في تفريغ المجتمع من الوعي.
فحين يرقص الإعلامي، يسقط ميزان القيم، وتعلو الضوضاء على الحكمة، ويُصاب المشاهد بخيبة أمل من وسيلة كان ينتظر منها العلم والصدق.
فيا إعلامنا،
عودي إلى رشدك، فالكلمة أمانة، ومن خان الأمانة ضاع بين ضحكٍ لا يليق، ومشهدٍ لا يُنسى من سوءه.