
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، ثم أما بعد يا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته، ولنعلم أن الرياح التي نراها تهب علينا في مواسم معينة، وبدرجات مختلفة من القوة، سواء كانت مثيرة للغبار والأتربة، أو غير مثيرة، وما تحدثه من آثار وأضرار، أو منافع وفوائد في أماكن مختلفة،، كل ذلك يسير على وفق نظام إلهي، وتدبير رباني محكم، وقد وصف القرآن الكريم هذه الدقة في التوزيع، والإنضباط في حركة الرياح بوصف معجز هو تصريف الرياح، بمعني أن الرياح لا تتحرك هذه الحركات العديدة بذاتيتها، ولكن بقدرة الله تعالي الذي يصرّفها بعلمه وبحكمته كيف يشاء، كما قال الله تعالى في سورة الجاثية ” وإختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون ”
فالله تعالى يصرّف الرياح فتجد تارة تأتي من الشمال، وتارة تأتي من ناحية الجنوب، وتارة صبا وهي الشرقية، وتارة دبور وهي غربية، ومنها رياح بحرية ورياح برية، وليلية ونهارية، ومنها ما هو للمطر، ومنها ما هو للقاح السحاب والشجر، ومنها ما هو عقيم لا ينتج، فهي آية في هبوبها وسكونها، وآية في شدتها ولينها، وآية في حرّها وبردها، وآية في إختلاف طبائعها ومهابها وتنوع منافعها، وإن إختلاف الرياح، وإختلاف مهابها يدل على خالق مدبر، حكيم عليم، يصرفها كيف يشاء، فيجعلها رخاء تارة وعاصفة تارة ورحمة تارة وعذابا تارة وتارة يحيي بها الزرع والثمار، وتارة يعطبها بها، وتارة يسيّر بها السفن، وتارة يغرقها بها، وتارة ترطب الأبدان، وتارة تذيبها، وتارة حارة، وتارة باردة، وتارة عقيما وتارة لاقحة فسبحان من جعل في هذا الهواء الواحد.
هذه المنافع الكثيرة العجيبة، ويقول شيخ الإسلام ابن كثير رحمه الله في تفسيره “الرياح ثمانية، أربعة منها رحمة، وأربعة عذاب، فأما الرحمة فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات، وأما العذاب فالعقيم، والصّرصر وهما في البرّ، والعاصف، والقاصف وهما في البحر، فإذا شاء الله جعلها رحمة وبشرى، أو شاء فجعلها عذابا أليما، والرياح مختلفة في مهابها صبا ودبور وجنوب وشمال، وفي منفعتها وتأثيرها أعظم إختلاف، فريح لينة رطبة تغذي النبات وأبدان الحيوان، وأخرى تجففه، وأخرى توهنه وتضعفه” فيا عباد الله إن الأولى من رياح الرحمة هي الناشرات كما في قوله تعالى ” والناشرات نشرا ” وهي الرياح التي يرسلها الله بشرا بين يدي رحمته، وقيل هي الرياح التي تنشر السحاب وتأتي بالمطر، والثانية المبشرات وهي الرياح التي تبشر بمجيء الغيث عقبها.
ويقول الله تعالى في سورة الروم ” ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ” والثالثة هي المرسلات، حيث قال الله تعالى ” والمرسلات عرفا ” ويعني الرياح أُرسلت متتابعة كعُرف الفرس” والرابعة من رياح الرحمة الذاريات في قوله تعالى ” والذاريات ذروا ” ويعني الرياح التي تذرو التراب ذروا، ويقال ذرت الريح التراب وأذرت، وأما رياح العذاب فالأولى منها تسمى العقيم وهي التي لا خير فيها، حيث يقول تعالي ” وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح الريح العقيم ” والثانية وهي الصرصر وهي التي أهلكت قوم عاد كما في قوله تعالى ” وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ” أي بريح مهلكة باردة، عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة، دائمة لا تفتر، والصرصر هو الباردة عتت عليهم حتى نقبت عن أفئدتهم.
والثالثة وهو العاصف وهي ريح شديدة يصحبها عادة مطر غزير أو ثلج أو برد، وقد تكون برية أو بحرية، حيث قال تعالى ” هو الذي يسيركم في البحر حتي إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ” والمعني أي جاءت تلك السفن ريح عاصف، أي شديدة الهبوب، وأما عن الرابعة من رياح العذاب هي الريح القاصف وهي التي تقصف ما مرت به فتحطمه وتدقه، من قولهم قصف فلان ظهر فلان إذا كسره، وقال الله تعالى ” أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخري فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا “