مقالات وآراء

العالم بين الفوضى والتحوّل

جريدة الصوت

 

كتبت شيماء محمود امين

 

كأن الأرض اليوم تدور بسرعة أكبر، وكأن عقارب الساعة تسابق نفسها، حتى صار الزمن يجري فوق صدورنا كالماء الهارب من بين الأصابع؛ لا يُمسَك ولا يُعاد.

العالم كله أشبه بمدينةٍ مترامية الأطراف، تضج شوارعها بالضوضاء، وتختلط فيها أصوات الحروب بأصوات الموسيقى، رائحة الدم بعطر الياسمين، بكاء المكلومين بضحك العابثين. كل نافذة فيها تُطل على مشهد مختلف؛ من خلف إحداها ترى مصانع تشعّ نورًا وتنتج ابتكارات مذهلة، ومن الأخرى ترى بيوتًا مهدّمة وأطفالًا بلا مأوى.

السياسة لم تعد قصورًا مشيّدة تُدار فيها الحوارات بهدوء، بل تحولت إلى رقعة شطرنج، تتبدل فيها الأحجار بلا إنذار، وينقلب الملك إلى جنديّ، والجنديّ إلى ملك، كل ذلك تحت سحبٍ من الغموض والمكر. القوى العظمى تتقارب وتتنافر كما تفعل الأمواج في صراعها الأبدي مع الشاطئ، وأحلام الأمم الصغيرة تُعلَّق على حبالٍ واهية، تتأرجح بين الخوف والرجاء.

أما الاقتصاد، فصار مثل قلبٍ متعب، ينبض تارة بسرعة، ثم يبطؤ فجأة حتى يوشك على التوقف. المال يتدفق كأنه نهر لا يروي إلا أراضي الأغنياء، بينما العطش يزداد في سهول الفقراء. العمل يتغير شكله، والحِرف القديمة تموت في صمت، فيما تقف ملايين العيون القلقة أمام شاشات مضيئة تنتظر وظيفة قد لا تأتي أبدًا.

التكنولوجيا، تلك المولودة التي بشّروا بها كبداية الخلاص، كبرت سريعًا وصارت مراهقة جامحة؛ تفتح لنا نوافذ على عوالم بعيدة، لكنها تغلق أبواب القرب بيننا وبين من يجلسون بجانبنا. مدن كاملة صارت تعيش في هواتف صغيرة، والقلوب تتحدث عبر إشعارات، حتى صارت المشاعر الرقمية تطغى على الدفء البشري.

ثقافيًا، يرقص الإنسان على حبل مشدود بين جذوره الضاربة في الأرض، ورياح العولمة التي تحاول اقتلاعه. اللغات تتلاقى، والملابس تتشابه، والأغاني تنتشر بسرعة الضوء، لكن الهوية تظل تسأل: “من أنا وسط هذا الزحام؟”

وفي عمق المشهد، يطلّ وجه البيئة الشاحب؛ أنهار تئنّ من التلوث، وغابات تُقصّ كما يُقصّ الشعر الميت، وسماء تُثقلها الغازات، وأرض تترنح تحت وطأة جشعنا. التغير المناخي لم يعد غدًا مؤجلًا، بل اليوم الذي نعيشه، والإنذار الذي نسمعه بأعيننا لا بآذاننا.

ورغم كل هذه الظلال، فإن الضوء لم ينطفئ. في الأزقة المظلمة ما زالت هناك شموع تُضاء، وفي قلب الأزمات تولد أفكار تلمع مثل نجوم بعيدة. الإنسان، برغم ضعفه، يملك سرًّا قديمًا: القدرة على النهوض بعد السقوط، وعلى بناء بيت جديد فوق أنقاض بيت تهدّم.

العالم الآن يقف عند منعطف، كمسافر أمام طريقين؛ أحدهما يقود إلى هاوية، والآخر إلى أفق مفتوح. وما بينهما، نحن… نحمل في أيدينا قرار الخطوة التالية، حتى وإن ظننا أن الريح وحدها هي التي تدفعنا.

 

العالم بين الفوضى والتحوّل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock