فن وثقافة

«ظل فى الغرفة 406 حيث يسكن الجنون»

جريدة الصوت

 

فيفى سعيد محمود

كانت الجدران تتنفس، أو هكذا كانت تعتقد.

كل ليلة، عندما يحل السكون وتختفي الأصوات، تشعر بأن الغرفة تضيق من حولها، كأنها تُحاصرها بين ضلوعها الباردة.

في البداية، ظنت أن الأمر مجرد هلوسة، لكن الآن… الآن أصبحت تعرف أن الغرفة على قيد الحياة، وأنها تكرهها.

لم تكن تذكر متى بدأت هذه الأصوات في عقلها، لكن صوتها كان الأكثر رعباً… صوتها هي، وهي تهمس لنفسها بكلمات لم تجرؤ يوماً على قولها. “أنتِ عبء… أنتِ لعنة… يجب أن تختفي.”

كانت تجلس على السرير، جسدها منهك وروحها مثقلة بثقل العالم. تراقب الشقوق في السقف كأنها خريطة للهروب من عقلها، لكن لا مفر. تحاول أن تتذكر ملامح وجهها قبل أن يتحول إلى قناع مرهق. هل كانت جميلة يوماً ما؟ أم أن المرض شوّهها من الداخل إلى الخارج؟

الليلة كانت مختلفة. شعرت بشيء يزحف في صدرها، كخنجر بطيء يمزق أضلاعها. صوت آخر انضم إلى الهمسات، صوت أمها. “لقد خذلتِني… لماذا لا تكونين طبيعية؟” كانت تُكرر الجملة وكأنها لحن مميت.

لم تستطع تمالك نفسها أكثر، بدأت تضحك… ضحكة هستيرية، مختلطة بدموع حارقة.

نهضت عن السرير، تتجه نحو النافذة. كانت تظن أن الهواء سيحررها، لكن حتى السماء بدت ضيقة. كان الشارع هادئاً، لا أحد يراقبها، لكن في عقلها… كانت الأنظار كلها مُسلّطة عليها.

“ماذا لو قفزت؟ هل سيتحرر هذا الألم؟” تساءلت بصوت مرتعش.

في تلك اللحظة، انفتح الباب. كانت الممرضة تقف هناك، بعينيها المرهقتين، تراقبها بحذر.

“هل أنتِ بخير؟” سألت، لكن الإجابة كانت أبعد من أن تُقال. كيف تشرح أن عقلها نفسه يتآمر ضدها؟ كيف تخبرهم أن الألم لم يعد جسدياً فقط، بل تغلغل في كل خلية، كل فكرة؟

“أنا لست بخير…” همست أخيراً، بصوت مشروخ.
“هناك وحش بداخلي… يأكلني ببطء.”

الممرضة اقتربت بحذر، كأنها تخاف أن تلمسها، وكأن لمسها قد يفجر الجنون في المكان. “سنزيد الجرعة الليلة، لا تقلقي.”

لكنها كانت قلقة… قلقة من أن الجرعة لن تُخرس الأصوات، لن تخفي العيون التي تراقبها من داخل المرآة، ولن توقف القلب الذي يخفق بشراسة كأنه يريد الهروب من صدرها.

عادت إلى السرير، تحتضن نفسها.

كانت تتمنى لو استطاعت الصراخ بكل ما فيها، أن تُمزق هذا القناع الذي صنعه المرض من مشاعرها. لكنها لم تكن قادرة… لا على الصراخ، ولا على البكاء أكثر.

أغمضت عينيها بقوة، وحاولت أن تتذكر يوماً كانت فيه سعيدة، يوماً كانت فيه روحها خفيفة كنسمة صباح. لكن لا شيء أتى… فقط الظلام.

وبينما كانت تغرق في هذا البئر العميق من الحزن، كان صوتها الداخلي يهمس من جديد:
“لن تهربي أبداً… أنا هنا لأبقى.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock