مقالات وآراء

سقطت الأوراق.. وأُغلقت القلوب

جريدة الصوت

 

بقلم د/سماح عزازي

في هذه الحياة المتقلّبة، لا شيء يظلّ كما هو… الوجوه تتبدّل، النوايا تنكشف، والقلوب التي كنا نظنّها ملاذًا تتحوّل فجأةً إلى غرباء لا نكاد نعرفهم. نمضي أعمارنا نرسم صورًا وردية للأشخاص، نضعهم في مقاماتٍ عليا من الثقة والحب والوفاء، ثم يأتي الواقع، كصفعة باردة، ليوقظنا من وهمٍ جميل… ويكشف لنا الحقيقة عارية من التزييف.

كم من مرة خذلنا فيها من منحناهم أرواحنا؟ كم من مرة أطفأوا نور قلوبنا دون أن يشعروا؟ نُعطي بصدق، ونصبر بحب، ونغفر بتعب، لكننا في النهاية لا نُكافأ إلا بالخذلان، كأن الطيبة جريمة، وكأن الوفاء نقيصة لا تُحتمل.

نصادف في دروبنا أشخاصًا يعبروننا مرورًا خفيفًا، لكن أثرهم يبقى في الروح كعطرٍ لا يُنسى… وآخرون يعبرون بثقل، يخلّفون وراءهم تشققات لا تُرمّم، وذكريات لا تندمل. ولأننا نُحب بصدق، نتألم بصدق، ونسامح كثيرًا… فإن أكثر ما يوجعنا ليس الرحيل، بل تغيّر من كنا نراهم الوطن!

الحياة تعلمنا دومًا أن نُبصر بحواسّ جديدة، أن نُميز بين من يستحق أن نحمل له قلبنا، ومن لا يستحق حتى مرور الخاطر، تعلمنا أن من لا يرى قيمتك اليوم، لن يراها غدًا، وأن من غاب بإرادته، لا يجب أن يعود مهما طرق الباب.

من اعتاد الهدم لا يُجيد التشييد، فليس كل من اقترب يستحق البقاء، ولا كل من آلمك سيمنحك الدواء. الحياة سلسلة من التجارب والوجوه، بعضها يلمع كالذهب، وبعضها يتآكل من الداخل كخشبٍ مسمومٍ بالسوس.

لا تطرق باباً أغلق في وجهك، ولا تركض خلف من أدبر عنك بملء إرادته. من جرحك اليوم، لن يكون غداً بلسمك، ومن صدّك لن يعود إليك بحبٍ صادق. نحن لا نعيد فتح النوافذ التي أغلقها الغدر، ولا نمدّ أيدينا حيث قُطعت الأوصال، ولا نزرع في أرضٍ لفظت جذورنا ذات خذلان.

الودّ بالودّ، والصدّ بالصدّ، وقلوبنا عزيزة… لا تسير على دروب الذل ولو سارت عليها الدنيا بأسرها. من استغنى عنا، فنحن عنه أغنى، ومن بقى لنا، فنحن له أبقى. نحن لا نُقاس بالحضور والغياب، بل بالمعدن، والصدق، والثبات.

كم من شخصٍ نسي خمسين موقفًا جميلاً لأنك فقط قصّرت مرة… وكم من آخر بحث لك عن عذرٍ في كل عثرة، واحتفى بك في كل حال. أنت هو أنت، لكن كل عين تراك من زاوية موضعك في قلبها. بعضهم لا يرى منك إلا النقص، وبعضهم لا يرى إلا الكمال، وبين هؤلاء وأولئك تتقلب مشاعرك كأوراق الخريف.

الحياة ستمتحنك بألوان البشر، ستريك من يكرهك دون سبب، ومن يحبك لسببٍ لا تفهمه. ستمرّ بك وجوه لا تكف عن جلدك، وأخرى تراك قصيدة حتى حين تصمت. ولكن تذكّر… لا تضع قلبك في يد من لا يعرف كيف يحتضنه، ولا تُعِر روحك لمن يستهين بثقلها.

نحن بسطاء في مشاعرنا… نؤمن بالعفوية، بالنية البيضاء، بالكلمة الطيبة، لكننا أعزاء في كرامتنا، ثابتون في وقارنا. لا نُجبر أحدًا على البقاء، ولا نرجو من أعرض أن يعود، ولا نقف على أعتاب خذلان مرير، نرجو منه دفئًا بعد صقيع.

خذ جرحك إلى مكانٍ بعيد… لا تبحث عن الشفاء في المكان ذاته الذي سمّمك، ولا تنتظر من كسر قلبك أن يكون له دواء. اليد التي صفعتك لن تمسح دمعتك، والذي كسرك لن يكون سببًا في جبرك. يكفي ما مضى… كفّ عن إعطاء الناس فرصًا إضافية.

لا تخذلوا قلوبًا أحبتكم بصدق، ووضعتكم في مقامٍ عالٍ من الثقة… فإن انكسارها لا يُجبر بسهولة. إنهم لا ينسون لحظة الخذلان، وإن عذروكم بظاهر القول. ولا تحزن على المتساقطين من شجرة حياتك، فالأوراق الهشة تسقط أولاً حين تهبّ رياح التجربة.

تمسّك بمن ثبت حين مالت بك الحياة، بمن كان ظلك حين احترقت بشمس الوحدة، بمن بقي حين رحل الجميع، بمن خفف عنك ولو بدعاء، ولو بنظرة، ولو بكلمة طيّبة لا تُنسى.

سلامٌ على الذين لم يجرحوا، ولم يطعنوا، ولم يتركوا آثار أقدامهم ثقيلةً على أرواحنا، سلامٌ على من أحسن حين كان في وسعه أن يُسيء، وسلامٌ على من حضر حين كان الغياب أيسر. سلام على من نقيّ السريرة، دافئ القلب، ثابت كالصخر في المواقف، سلام على الذين مرّوا على قلوبنا خفافًا… فكانوا كأنهم أنهار تمرّ دون أن تغرق شيئًا.

كنا بالأمس نتغافل حفاظًا على المحبة… نتجاهل كثيرًا من الأخطاء كي لا ينقطع خيط الودّ، واليوم نغضّ الطرف لا من أجلهم، بل لأننا تعبنا. لم نعد نملك طاقة الجدل العقيم، ولا قدرة على تبرير ما لا يُبرر، أو إصلاح ما كُسر في القلب إلى الأبد. نتغافل كي نعيش، كي نحافظ على ما تبقى من صبرنا، من اتزاننا، من رماد أنفسنا المتناثرة.

لا تعيد حسابات الأمس، فالعمر حين تسقط أوراقه لا تنبت من جديد، لكن مع كل ربيع جديد ستنبت أخرى… فلا تلتفت لما سقط، بل امضِ نحو ما ينبت أمامك. لا تثق مجددًا بمن استباح جرحك، فالطباع لا تتغير، وإن تزيّنت.

مؤلمةٌ تلك اللحظة حين تصدمك الحياة بمن ظننتهم وطناً، وكانوا في الحقيقة محطات مؤقتة… قف، وراقب جيدًا: جامل من يأتيك وقت فراغه، لكن تمسك بمن يفرّغ نفسه لك. لا تثق بكل ما تراه… حتى الملح يشبه السكر!

كن كما أنت، لا تتصنع. من يريدك سيحبك بعيوبك قبل محاسنك، ومن لا يقبلك كما أنت، لن يقبلك وإن لبست ألف قناع. عش لنفسك… فالجميع قصصٌ عابرة، وحين يُطوى الفصل، يبقى اسمك وحدك على الغلاف الأخير.

لا تثق كثيرًا بمكانتك في قلوب الناس… فقلوبهم تتقلب كما يتقلب الطقس. قد يصحبونك اليوم، ويتخلون عنك غدًا. الناس مراحل لا بيوت… محطات قد تطول، لكنها لا تدوم.
وحين تسدل الحياة ستارها، لن يبقى معك إلا ذاتك الحقيقية، لا ما قيل عنك، ولا ما ظنّه الآخرون بك.
وحين يعود كل شيء إلى مكانه الحقيقي، ستجد أن أكثر ما كنت تبحث عنه في الناس… كان يسكنك أنت.

وفي لحظة الإدراك الأخيرة، حين تهدأ العواصف، وتنجلي الغشاوة، لن يبقى معك إلا الله… ثم قلبك، فاجعلهما أغلى ما تملك.

سندرك –ولو بعد حين– أن الحياة ليست إلا مراحل، وأننا لسنا محطة ثابتة في قلوب أحد. سنتعلم أن لا نبالغ في التوقعات، ولا نفرط في منح الثقة، ولا نربط سعادتنا بأحدٍ سوانا. سنُدرك أن أجمل العلاقات هي تلك التي تقوم على الصدق والاحترام والبقاء دون مصلحة، وأنّ مَن يرحل عند أوّل اختبار لم يكن يومًا لنا.

دعهم يرحلون… دعهم يسقطون كما تسقط الأوراق اليابسة حين تهبّ أول نسمة خريف. لا تركض خلف من باعك، ولا ترمّم جدرانًا تهدمت على يدي ساكنيها. تمسّك فقط بمن حضر حين احتجت، بمن أضاء لك ظلامك، بمن خفف عنك أثقالك دون أن تُفصح بها. هؤلاء فقط هم الوطن، والبقية… مجرد مسافرين.

كن لنفسك قبل أن تكون لأحد، أحبّ ذاتك وامنحها الطمأنينة التي تبخل بها الأيام. لا تنتظر من أحد أن يُنقذك، فاليد التي ستنتشلك حين تسقط، غالبًا ما ستكون يدك أنت. ولا تثق كثيرًا بالمكانة التي تظنّها في قلوب الآخرين… فحتى القلوب تتقلب، والمشاعر تُبدلها كلمة، أو موقف، أو لا شيء!

الناس مراحل… منهم من يُشبه الفجر، حضورهم دفء، ومنهم من يُشبه الغروب، نهايتهم وجع. فاختر من يُضيء دربك لا من يُطفئك، وامضِ بقلبك خفيفًا من أثقال لا تستحقك، عزيزًا كما خلقك الله، كريم النفس، لا تُطيل الوقوف على أبوابٍ أوصدت، ولا تنتظر ممن أدار ظهره أن يلتفت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock