
بقلم احمد شتيه
باحث فى الشأن الاستراتيجي والامن القومى
في توقيت بالغ الحساسية، بينما تتصاعد المعاناة الإنسانية في غزة إلى مستويات غير مسبوقة، تشهد الساحة الإعلامية والدبلوماسية هجوماً مفاجئاً ومكثفاً موجهاً ضد مصر، يتهمها بكونها “الطرف الذي يقف خلف منع المساعدات” عن القطاع المحاصر.
هذا الاتهام، الذي تزامن بشكل لافت مع تصريحات قاسية وغير مألوفة من خليل الحية، عضو المكتب السياسي لحركة حماس، يطرح أسئلة محيرة: من يدفع بهذه الرواية؟ ولماذا تطفو على السطح الآن بالتحديد؟ وما علاقة ذلك بتصريحات الرئيس السيسي الأخيرة التي حسمت فيها مصر موقفها ودورها؟
تقوم الرواية المتداولة على افتراض أن مصر هي من تعيق دخول المساعدات عبر معبر رفح، المنفذ الوحيد الذي لا تتحكم فيه إسرائيل بشكل مباشر. لكن الوقائع على الأرض تنفي هذا جملة وتفصيلاً:
رافد الحياة الرئيسي: معبر رفح المصري ظل، منذ السابع من أكتوبر، شريان الحياة الأساسي لغزة ، وفقاً للأمم المتحدة والهلال الأحمر المصري، مرت عبره عشرات الآلاف من الشاحنات المحملة بالمساعدات الغذائية والدوائية والإنسانية، رغم كل الصعوبات اللوجستية والسياسية والأمنية.
العقبة الحقيقية: التقارير الدولية (بما فيها تقارير أممية ومؤسسات حقوقية مرموقة) تُجمع على أن العقبات الرئيسية أمام تدفق المساعدات تتمثل في:
الإجراءات الإسرائيلية المطولة والمعقدة: التفتيش المزدوج (في الكرنتينا الإسرائيلية قرب رفح ثم في نقاط التفتيش الداخلية)، وضع قوائم “مزدوجة الاستخدام” الطويلة التي تحظر أدوية وأغذية أساسية، وتأخير الموافقات لأسابيع.
استهداف طالبي المساعدات:قيام القوات الإسرائيلية بإطلاق النار على المدنيين المتجمعين قرب نقاط التوزيع داخل غزة.
تدمير البنية التحتية: تعطيل الطرق وغياب الأمن الداخلي الذي يجعل التوزيع مستحيلاً.
مصر تدفع الثمن: تحملت مصر تكاليف هائلة لاستقبال وإيواء مئات الآلاف من الفلسطينيين من ذوي الإصابات والحالات الطبية الخطيرة، وتوفير الرعاية لهم.
تصريحات الحية: لغز التوقيت والسياق
في هذا المناخ، جاءت تصريحات خليل الحية، التي اتهم فيها مصر بشكل غير مباشر بالتقصير و”المشاركة في الحصار”، صادمةً للكثيرين. السؤال المحوري: لماذا يهاجم قيادي بارز في حماس الشريك الأهم والأكثر ثباتاً في دعم القضية الفلسطينية، والذي يتحمل عبء استقبال الجرحى وتسهيل مفاوضات الهدنات؟ التحليل يشير إلى عدة احتمالات:
ضغوط داخلية: محاولة لتهدئة غضب الشارع الغزي المحبط من استمرار الحصار والمعاناة، بتوجيه جزء من اللوم خارجياً (نحو مصر) بدلاً من تحميل حماس أو إسرائيل المسؤولية الكاملة في الخطاب الداخلي.
أداة تفاوض: قد تكون محاولة لزيادة الضغط على مصر لتقديم تنازلات أكبر في مفاوضات وقف إطلاق النار وصفقة التبادل، أو لتسريع فتح المعبر بشكل غير مشروط.
أجندة خارجية: احتمال استغلال جهات إقليمية ودولية معينة لهذه التصريحات لتشويه صورة مصر وتقويض دورها الريادي، خاصة في ظل الموقف المصري الثابت المطالب بوقف إطلاق النار الفوري وإرجاع اللاجئين الفلسطينيين إلى شمال غزة ورفض أي حلول تؤدي إلى تهجيرهم.
انقسامات داخل حماس: قد تعكس توترات أو تبايناً في الرؤى داخل قيادة الحركة نفسها حول كيفية التعامل مع مصر والدول الأخرى.
تصريحات الرئيس السيسي: الرد الحاسم ورفض المزايدة وجاء خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ يومين ليس فقط لتأكيد الثوابت المصرية، بل كرد واضح وقوي على هذه الحملة ورفض صريح للمزايدة:
تأكيد الثوابت:مصر لن تتنازل عن ذرة من التراب الفلسطيني رفض التهجير جملة وتفصيلاً”، “دعم كامل لإنشاء الدولة الفلسطينية”.
كشف حجم الجهود: تذكير العالم بالدور المصري الضخم في استقبال وإعالة عشرات الآلاف من الجرحى الفلسطينيين وتسهيل دخول المساعدات.
فضح المزايدة السياسية: نحن لا نزايد على دماء الفلسطينيين ، كانت العبارة بمثابة إدانة صريحة لمن يحاولون استغلال المعاناة الإنسانية لتحقيق مكاسب سياسية أو لتشويه سمعة مصر.
الإشارة إلى العقبة الحقيقية: التأكيد على أن استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية هو السبب الجذري للمعاناة وتعطيل المساعدات.
بعد ربط الخيوط، يبدو جلياً أن هذه الحملة الإعلامية المفاجئة ضد مصر ليست عفوية، بل مدبرة وذات أهداف محددة ، تشويه السمعة وإضعاف الدور:هدف رئيسي هو تقويض المصداقية الإقليمية والدولية لمصر ودورها المحوري كوسيط لا غنى عنه، خاصة مع تصاعد الضغوط الدولية على إسرائيل.
تحويل الأنظار: صرف الانتباه عن المسؤولية الإسرائيلية المباشرة والأساسية عن أزمة المساعدات والمعاناة الإنسانية، وخلق “شيطان بديل” (مصر).
الضغط على مصر: إجبار مصر على فتح معبر رفح بشكل غير مشروط ودون ضمانات أمنية، أو القبول بسيناريوهات التهجير التي ترفضها مصر جملة وتفصيلاً، أو تقديم تنازلات في مفاوضات الهدنة.
استغلال الانقسام الفلسطيني: محاولة بعض الأطراف الإقليمية والدولية استغلال أي توتر ظاهري بين حماس ومصر لفرض أجنداتها أو لتعطيل مسار المصالحة الفلسطينية.
توقيت الانهيار الإنساني:إطلاق الحملة مع بلوغ المجاعة في غزة مستويات كارثية، لاستثمار حالة اليأس والغضب الفلسطيني والعربي وتوجيهها ضد مصر.
في النهاية، الضحية الأكبر لهذه الألاعيب السياسية والإعلامية المكشوفة هي شعب غزة الجائع والمحاصر.
الحملة على مصر، مهما كانت دوافعها وخلفياتها، تخدم في جوهرها من يريدون إطالة أمد الحرب والمعاناة، وتشتيت الجهود عن المطالبة الحقيقية بوقف إطلاق النار الفوري وغير المشروط، ورفع الحصار الإسرائيلي الشامل، وتدفق المساعدات دون عوائق.
تصريحات الرئيس السيسي وضعت النقاط على الحروف: مصر حصن الثوابت، ودورها التاريخي في الدفاع عن القضية الفلسطينية لا يُشترى بالمزايدة ولا يُهدم بالاتهامات الملفقة. المطلوب الآن هو فضح هذه الحملة، والتركيز على تحميل المسؤول الحقيقي الاحتلال الإسرائيلي مسؤولية الجريمة الإنسانية الجارية، ووقف محاولات استغلال دماء الفلسطينيين في صراعات جانبية.