صحف وتقارير

الإدمان في منظور كارل أبراهام

د حنان حسن مصطفى

يرى كارل أبراهام أن الإدمان، سواء كان كحولًا أو مورفين أو غيره، لا يمكن النظر إليه كعرض سطحي أو مجرد عادة سيئة، بل هو في جوهره نكوص ليبيدي عميق إلى المراحل البدائية من النمو النفسي الجنسي. المدمن يعيد تمثيل إشباعات أولية ارتبطت بالمرحلة الفمية والشرجية، حيث يكون الفم والأمعاء هما المنطقتان الأُولَيَتان للإروتوجينية.

الكحول على سبيل المثال يعيد لذة المصّ والارتواء من الثدي، فهو ليس مجرد مادة مخدّرة بل بديل رمزي عن التجربة الأولى للرضاعة، أي عن لحظة التوحّد مع الأم. من هنا نفهم لماذا تكتسب علاقة المدمن بالكحول طابعًا قهريًا: إنها محاولة للعودة إلى حالة بدائية من الارتواء والاكتفاء.

 

هذا النكوص ليس محايدًا، بل يتداخل مع آلية الاستدخال (introjection) التي شدّد أبراهام على حضورها في الاكتئاب والذهان. المدمن لا يكتفي بتناول المادة، بل يستدخلها كموضوع داخلي يحلّ محل الموضوعات الخارجية التي خسرها أو خذلته. وبهذا المعنى، يصبح الكحول أو المورفين موضوعًا داخليًا جديدًا يُحافظ على علاقة وهمية بالآخر الغائب. غير أنّ هذا الاستدخال مشوّه: فبدل أن يحفظ الموضوع داخليًا كتجربة حيّة، يتحول إلى مادة خاملة تسيطر على الأنا وتبتلعه.

 

الإدمان إذن هو حلّ بدائي لمعضلة موضوعية: حين يخيب الموضوع الأصلي (الأم أو الأب أو الحبيب)، ينهار الرابط الرمزي ويستبدل المدمن هذه العلاقة بمادة مادية. هذا الاستبدال يفسّر عمق الإدمان وصعوبة التحرر منه: فالمخدر أو الكحول ليسا مجرد وسيلة متعة، بل موضوع حب داخلي يحتل مكانًا أساسيًا في الاقتصاد النفسي. من هنا نفهم أيضًا كيف أن لحظات النشوة في الإدمان ليست سوى استعادة زائفة لحالة بدائية من الرضا، يليها دائمًا فراغ أعظم، إذ لا يمكن للمادة أن تحلّ مكان الآخر الرمزي أو أن تعيد بناء العلاقة المفقودة.

إلى جانب النكوص إلى الإشباعات الفمية والشرجية، يرى أبراهام أن الإدمان يكشف عن بنية نرجسية بدائية. المدمن لا يتعامل مع الكحول أو المخدر كمجرد وسيلة للمتعة، بل كمجال يتيح له الانسحاب من العالم الخارجي والعودة إلى دائرة الاكتفاء الذاتي. بهذا المعنى يصبح الإدمان حركة ارتدادية نحو نرجسية أولية، حيث تُبتلع الطاقة الموجهة نحو الآخر وتُحصر داخل الأنا. المادة المخدّرة هنا لا تُستخدم لإشباع رغبة موجهة إلى موضوع خارجي، بل لإلغاء الحاجة إلى الموضوع من أساسها. إنها محاولة لإغلاق القناة التي تربط الذات بالآخر الكبير، واستبدالها بلذة مكتفية بذاتها، لكنها وهمية وقصيرة الأمد.

 

غير أن هذا الاكتفاء الموهوم لا ينفصل عن الشعور بالذنب الذي يصفه أبراهام في البنى العصابية والاكتئابية. فالإدمان، وإن بدأ كوسيلة للهروب من الألم النفسي، سرعان ما يُدخل المدمن في حلقة مفرغة: لحظة نشوة يعقبها انهيار وجداني أعمق وإحساس طاغٍ بالذنب. والذنب هنا ليس مجرد استجابة أخلاقية، بل هو انعكاس لآلية استدخال عدوانية: إذ أن العدوان المكبوت تجاه الموضوع الخارجي يتحول إلى عداء للذات، فيتخذ المدمن من ذاته موضوعًا للعقاب عبر الانغماس في المادة التي تدمره ببطء. بهذا يصبح الإدمان في أحد أبعاده شكلًا من أشكال العقاب الذاتي الذي يُبقي المدمن أسيرًا للتوتر بين النشوة والذنب، دون إمكانية للخروج من الدائرة.

 

ويضيف أبراهام بعدًا آخر بالغ الأهمية: الأعراض الجسدية المصاحبة للإدمان ليست عارضة أو ثانوية، بل هي امتداد مباشر للبنية اللاواعية. فالاضطرابات الجسدية مثل الأرق، فرط الأكل، أو الأعراض المعدية ليست سوى أشكال جديدة لعودة الإروتوجينية الفمية والشرجية. كل عرض جسدي عند المدمن هو تذكير بأن الجسد صار ساحة اللعب الرئيسية للغرائز التي لم تجد تصريفها الرمزي. بهذا تصبح الجسدانية في الإدمان تجسيدًا مباشِرًا للرغبات البدائية التي لم تُرمَّز ولم تُكبَت، بل انحرفت إلى دائرة التكرار القهري.

 

من خلال هذه العناصر الثلاثة – النرجسية، الذنب، والجسد – يُظهر أبراهام أن الإدمان ليس مجرد سلوك انحرافي، بل هو بنية معقدة تتداخل فيها النرجسية البدائية مع آليات الاستدخال والعقاب الذاتي، وتتجسد في أعراض جسدية تضع المدمن في حالة من العبودية لموضوع مادي يحل محل الآخر الكبير. بهذا المعنى، يقدّم أبراهام فهمًا عميقًا يجعل من الإدمان تجسيدًا لعودة البدائي واللاعقلاني داخل الحياة النفسية، ويضعه في صميم التحليل النفسي للبنى العصابية والذهانية معًا.

 

ُبرز أبراهام أن الكحول يرتبط بشكل مباشر بظهور الغيرة والعدوانية. فحالة السكر لا تعمل فقط كتحرر من القيود الأناوية، بل تكشف عن اندفاعات بدائية مكبوتة، أهمها الحسد. في حالة المدمن، يصبح الشراب مناسبة لإطلاق الكراهية المضمرة تجاه الآخر، سواء في صورة نزاع مباشر أو عبر شعور داخلي بالعداء. بهذا، يمكن القول إن الكحول يفتح المجال أمام عودة الدوافع التدميرية الأولية التي عادةً ما تُكبَت أو تُرمَّز.

 

في مستوى أعمق، يرى أبراهام أن الكحول لا يمكن فصله عن رمزيته البدائية. ففعل الشرب عند المدمن ليس إلا محاولة للعودة إلى تجربة الرضاعة الأولى. الكحول إذن ليس مجرد مادة، بل هو رمز للثدي ولـ اللبن الأمومي الذي يمثل أول موضوع للحب والإشباع. من هنا يكتسب الإدمان معناه العميق: إنه تعبير عن توق إلى الأم الأولى، ومحاولة لتعويض فقدها عبر استعاضة وهمية لا يمكن أن تكتمل. فالشراب يستحضر الرضاعة لكنه في الوقت نفسه يفضح غيابها، مما يجعل المدمن يدور في دائرة لا نهائية من البحث عن ارتواء مستحيل.

 

يربط أبراهام بين الإدمان وبين السلوكيات المنحرفة مثل السرقة القهرية أو الأفعال العدوانية، موضحًا أن المادة المخدرة تُضعف الرقابة الأناوية وتُحرر الدوافع المكبوتة، مما يسمح بظهور تصرفات تعكس عودة الدوافع البدائية دون وسيط رمزي. الإدمان هنا ليس فقط بحثًا عن متعة، بل هو مسرح لانهيار الحدود الأناوية، حيث تظهر الانحرافات بشكل فجّ كامتداد مباشر للبنية اللاواعية.

 

الأخطر من ذلك أن أبراهام يربط الإدمان بالميل الانتحاري، خصوصًا في الحالات الاكتئابية. فالكحول والمخدر لا يقتصران على منح لحظات من النشوة، بل يعملان أيضًا كأدوات لتدمير الذات تدريجيًا. بهذا المعنى، يصبح الإدمان انتحارًا بطيئًا، يعكس تحويل العدوان المكبوت تجاه الموضوع الخارجي إلى عقاب موجَّه ضد الذات. المدمن لا يقتل نفسه مباشرة، لكنه يدخل في عملية موت بطيء تُمارَس يوميًا مع كل جرعة.

 

وفي إطار أوسع، يضع أبراهام الإدمان ضمن الاقتصاد الرمزي للليبيدو، حيث يرتبط الكحول والمخدر بالطعام والبراز والمال. هذه العناصر كلها، في التحليل النفسي، تُعدّ رموزًا بديلة للرغبة المكبوتة. ومن هنا فإن الإدمان لا يُختزَل في كونه سلوكًا مرضيًا، بل هو جزء من شبكة رمزية تُظهر كيف أن الرغبة حين تُحرَم من موضوعها الأصلي تبحث عن بدائل في مواد وأعراض وسلوكيات متكررة

@إشارة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock