صحف وتقارير

غزّة.. مدينة التاريخ والجراح والصمود

كتب أشرف ماهر ضلع 

حين تُذكر غزّة، لا يقتصر الحضور على رقعة جغرافية صغيرة تطل على البحر المتوسط، بل تتجسد أمامنا مدينةٌ صنعت حضورها في التاريخ منذ آلاف السنين، مدينةٌ شاءت الأقدار أن تكون دومًا في قلب الصراع، وموطئ أقدام الغزاة، وساحةً للفاتحين والمقاومين على السواء.

غزّة هي إحدى أقدم مدن العالم، يعود تاريخها إلى ما يقارب خمسة آلاف عام. عُرفت في العصور الفرعونية باعتبارها معبرًا مهمًا بين مصر والشام، فكانت بوابة التجارة والجيوش. مرّت عليها الإمبراطوريات الكبرى؛ من الفراعنة إلى الآشوريين، ومن الفرس إلى الإغريق، حتى صارت معركة الإسكندر الأكبر مع الفرس على أبوابها علامة فارقة في تاريخها. وفي العهد الروماني، كانت غزّة مركزًا تجاريًا وثقافيًا بارزًا، تجمع بين البحر والصحراء، وتستقطب القوافل والتجار.

 

ومع دخولها في ظل الحضارة الإسلامية، تحوّلت غزّة إلى منارة علمٍ ودين، وارتبط اسمها بولادة الشافعي، إمام المذهب الفقهي الكبير، الذي جعل منها شاهدًا على أن الأرض التي تعاقبت عليها الجيوش يمكن أن تُنبت أعلام الفكر والعلم.

 

لكن، لم يكن التاريخ وحده من صاغ هوية غزّة، بل الجغرافيا أيضًا. فهي المدينة الساحلية المحاصرة بين البحر والحدود، والتي أرادها المحتل عبر التاريخ أن تكون “الهامش”، بينما جعلها أهلها “المتن” والصدارة. فهي مدينة المقاومة التي لم تنحنِ رغم الحصار، ولم تساوم على هويتها رغم الجراح.

 

غزّة اليوم ليست مجرد مدينة، بل رمز. رمزٌ للصمود أمام آلة الاحتلال، ورمزٌ للتحدي في وجه الجوع والدمار، ورمزٌ لكرامةٍ عربيةٍ لا تزال تُنبت أملًا في قلب الركام.

 

التاريخ يقول إن غزّة كانت دومًا مطمعًا للقوى الكبرى، لكنها في كل مرة تثبت أنها أكبر من أن تُهزم. فمن رحم المحن تخرج المقاومة، ومن بين الركام يولد الأطفال الذين يحملون الحلم والرصاصة معًا.

 

إنها غزّة العزة، التي علّمت العالم أن المدن ليست بمساحتها ولا بثرائها، بل بصلابة إرادتها، وأن التاريخ يكتبه الذين يرفضون الانكسار، لا الذين يكتفون بتسجيل الهزائم.

 

فغزّة، على مرّ العصور، كانت ولا تزال المدينة التي لا تموت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock