
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله العزيز الحكيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي أرسله ربه هاديا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله تعالى بإذنه وسراجا منيرا، أما بعد أيها المسلمون مما يقوي اليقين في القلب ويثبت العبد عليه هو دعاء الله تعالى والإلحاح بالدعاء بأن يقوي اليقين في قلبه، ويثبت قلبه على الدين، كما جاء في الحديث الشريف “سلوا الله اليقين والمعافاة ” رواه البخاري، ومن أعظم ما يقوي اليقين ويثبت العبد عليه هو النظر والتفكر في آيات الله الكونية ومخلوقاته العظيمة، في السماوات والنجوم والكواكب، والأرض وما فيها من جبال وبحار وأنهار وأشجار وحيوانات ونحو ذلك، وتأمل تدبير الله لذلك كله ومعرفة عظمة الله تعالى وعظيم قدرته.
ولقد ضرب أنبياء الله ورسله الكرام المثل الأعلى في اليقين وحسن الثقة بالله تعالى، وها هو كليم الله موسى عليه السلام يقول لأصحابه حينما أدركهم فرعون فوجدوا البحر من أمامهم والعدو من ورائهم ” فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسي إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين ” وهذا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يقول لصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهما في الغار وقد أحدقتم به الإخطار ” ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا ” وقال أبو عبد الله أحمد بن حنبل فهذا لأهل الغفلة، صير الله هذه الدنيا بما فيها سببا للذكر لأهل الغفلة ليذكروا بها آخرتهم، فأما أهل اليقين فقد صارت الآخرة نصب أعينهم فلا بيت حمام يزعجه ولا بيت عروس يستفزه، لقد دقت الدنيا بما فيها من الصنفين والضربين في جنب الآخرة، حتى أن جميع نعيم الدنيا في أعينهم.
كنثارة الطعام من مائدة عظيمة، وجميع شدائد الدنيا في أعينهم كقتلة عوقب بها مجرم أو مسئ قد كان استوجب بها القتل أو الصلب من جميع عقوبات أهل الدنيا، ولليقين مراتب منها العلم وحسن التوكل والرضا والتسليم وعدم تعلق القلب بغير الله تعالي، وأن يكون أوثق بما في يد الله تعالى عما هو في يده، كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله يحب التصدق والإيثار على نفسه، وكان يتصدق بقوته ويبيت طاويا، فأصبح يوما وليس في بيته غير درهم واحد، فقالت له زوجته خذ هذا الدرهم واشتري به دقيقا نعجن بعضه ونطبخ بعضه للأولاد، فإنهم لا يصبرون على ألم الجوع، فأخذ الدرهم والمزود وخرج إلى السوق، وكان الجو شديد البرودة، فصادفه سائل فتحوله عنه، فلحقه وألح عليه وأقسم عليه، فدفع له الدرهم وبقي في هم وكرب، وفكر كيف يعود إلى الأولاد والزوجة بغير شئ.
فمر بسوق البلاط وهم ينشرونه ففتح المزود وملأه من النشارة وربطه وأتى به إلى البيت فوضعه فيه على غفله من زوجته ثم خرج إلى المسجد فعمدت زوجته إلى المزود ففتحته فإذا فيه دقيق أبيض فعجنت منه وطبخت للأولاد فأكلوا وشبعوا ولعبوا فلما إرتفع النهار جاء أبو مسلم وهو على خوف من امرأته فلما جلس أتته بالمائدة والطعام فأكل، فلما فرغ قال من أين لكم هذا؟ قالت من المزود الذي جئت به أمس، فتعجب من ذلك وشكر الله على لطفه وكرمه، واعلموا أن اليقين ثلاث درجات، فالأولى هو علم اليقين، حيث قال تعالى ” كلا لو تعلمون عليم اليقين ” فعلم اليقين هو العلم الجازم المطابق للواقع الذى لا شك فيه، والثانية هو عين اليقين، حيث قال تعالى ” ثم لترونها عين اليقين ” وهو ما كان عن مشاهدة وإنكشاف، والثالثة حق اليقين حيث قال تعالى في سورة الواقعة ” وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم ” وهو ما كان عن ملابسة ومخالطة.