
الحمد لله العظيم في قدره، العزيز في قهره، العليم بحال العبد في سرّه وجهره، يسمع أنين المظلوم عند ضعف صبره، ويجود عليه بإعانته ونصره، أحمده على القدر خيره وشره، وأشكره على القضاء حلوه ومره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الآيات الباهرة، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما جاد السّحاب بقطره، وطلّ الربيع بزهره، وسلم تسليما كثيرا، ثم أما بعد ذكرت المصادر الكثير والكثير عن الوطن وحب الوطن وحق الوطن، وأن يكون العطاء له غير محدود أبدا،
ومهما قست الظروف يبقى الوطن حنونا وادعا، حتى أن القلب لا يشعر بالراحة والسكينة إلا فيه، فهو شيء متعلق بالروح قبل الجسد، وحبه يسري في العروق مع الدماء، ويكون حب الوطن بأن يجد أبناءه ويجتهدوا ويصنعوا لنفسهم مكانة بين باقي الشعوب.
لأن الوطن مثل الأم الحنون التي تفتخر بإنجاز أبنائها، وكلما أعطى الأبناء أكثر، زادهم الوطن أكثر فأكثر، فهو في الولادة يمنحك اسمه وانتماءه وعاطفته، وفي الحياة يمنحك الأهل والبيت والسكن والتعليم، وفي الموت يحتوي أبناءه بترابه ويضمهم إليه إلى أن يشاء الله، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ” اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة ” رواه البخاري، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال ” اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه ” رواه مسلم، وإستجاب الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم وعوفي المسلمون بعدها من هذه الحمى، وأصبحت المدينة المنورة موطنا محببا للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل المهاجرين إليها من المسلمين.
على تنوع بيئاتهم ومواطنهم، فرغم حب الصحابة لمكة، إلا أنهم آثروا دين الله عز وجل على حبهم لوطنهم، فهاجر من هاجر منهم إلى الحبشة، ثم هاجروا جميعا إلى المدينة المنورة، تاركين وطنهم حفاظا على دينهم، ورغبة في نشره بين الناس، ولذلك وصفهم الله عز وجل بالمهاجرين، وجعل هذا الوصف مدحا لهم يعلي قدرهم، ويبيّن فضلهم إلى يوم القيامة، وإن حب المسلم لوطنه، وتمني الخير والعمل على تحصيله له من دروس الهجرة النبوية، وليس من العصبية أن يحب المسلم وطنه، لكنه لا يعني التعصب لبلد دون بلد، أو لجنس دون جنس، أو تقسيم الأمة إلى دول وطوائف متباغضة ومتنافرة، بل حب الوطن يعني الأخوة والحب، والتعاون والنصرة بين المسلم وجميع المسلمين في جميع البلاد والأقطار، وقال الله تعالى ” إنما المؤمنون أخوة ” وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
” مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا إشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ” رواه مسلم، وقال “المسلم أخو المسلم” رواه البخاري، وقال “المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم” رواه أحمد، وحب الوطن غريزة فطر الله تعالي عليها البشر، لذا فالإنتماء والولاء له هو مبدأ شرعي وقيمة دينية، وليس عبادة لا يقصد بحب الوطن عبادة الأوطان أو تعظيمها بما يخالف الشرع، بل هو انغراس في قلب المؤمن يتجسد في سلوكه ووعيه، ويتوافق مع الدين حب الوطن والإنتماء الديني لا يتعارضان، بل يكملان بعضهما البعض فالإسلام يدعو إلى حب الوطن والعمل على رفعته، ومن مظاهر حب الوطن في الإسلام هو الولاء والإنتماء حيث يعكس حب الوطن إنتمائه للوطن الذي ينشأ فيه الإنسان، وترعرع في أرضه.