
“أنثى على حافة الضوء”
(صفية وحدها في الضوء الخافت)
(على المسرح مرآة من زجاج مشروخ ،
ضوء باهت ، موسيقى ناعمة كأنها تتنفس)
أنا صفية :
امرأةٌ تتقن الإصغاء لارتباك الصمت
ولأنوثة تمشي على حافة الضوء دون أن تحترق
كلما عبرتُ مرآتي ، سمعتُ نبضي يقول :
“ليس الجسد وطناً ، بل قصيدة تبحث عن قارئها الأول”
أضع كحلي كما تضع الشاعرة توقيعها على الليل ،
وأمشي بثقة من يعرف أن الحب ليس خطيئة ،
بل شكل آخر من أشكال الوعي ،
حين يستيقظ الجسد ليقول : أنا أيضاً أفكر.
(تتقدم خطوة نحو الأمام ، الضوء يلامس وجهها ببطء)
كانوا يقولون إن الأنثى تُخفي ،
لكنني لم أُخف شيئاً سوى حقي في الظهور.
أكتب على جلدي تاريخي ،
على شفتَي رغباتي المؤجلة ،
وعلى صدري صلاة بلا معابد ،
صلاةٌ تبحث عن إنسان يشبه النور في رحم الوجود.
(صمت قصير ، ثم تهمس)
كنت أراك كأنك المعنى نفسه حين يتجسد ،
نوراً يسكن الإنسان ، فيُضيء ما كان معتماً في داخلي.
(تضحك بمرارة هادئة)
أخاف الحب ؟ لا
أخاف أن أتحول إلى ظل في رواية ،
كتبها رجل لم يقرأ امرأة يوماً.
لهذا أكتبني وحدي.
أعيد ترتيب أنوثتي كأنني أكتب دستوراً للجسد ،
أعلّم قلبي أن يكون حراً ،
وأعلّم عيني أن تَريان دون خوف.
(تغلق عينيها ، همسها الأخير يتسع كأن المسرح كله قلبها)
أنا لست جسداً عابراً في ذاكرة رجل
أنا ذاكرة الكون حين تهمس أنثى.
(صفية تقترب ببطء ، تلامس وجهها ،
ثم تتحدث كأنها تخاطب طيفاً)
صفية : كلّ شيء في كان نائماً
حتى مررتَ بي كنسمة تتذكر طفولتها.
لم تلمسني ، لكنني ارتجفت ،
كأن الوجود كلّه عاد يتنفس من صدري.
من أنت ؟ أحلم بك أم بي ؟
هل جئت لتعيد ترتيب جسدي في لغتي ؟
أم لتعلمني أن الرغبة ليست خطيئة بل صلاة أخرى؟
(تقترب من المرآة ، ينعكس وجهها مكسوراً بالنور)
كنت أظن أن الجسد سجن للروح ،
لكنّك جعلتني أراه جناحاً.
كل خلية في تنطق حين تذكر اسمك ،
كأن خلايا الكون تتواطأ لتخلقنا من جديد.
هل تعلم ؟
لم أعد أراك رجلاً ، أراك لحظة معرفة ،
أراك المعنى الذي تساقط مني حين خفتُ من نفسي.
فيك لست امرأة فقط ،
بل كوكب يستيقظ من سباته ،
وماء يتذكر أن اسمه الحياة.
لا تلمسني كثيراً ، يكفيني أن تتنفس حولي ،
فأنا أستنشقك كما يُستنشق الضوء ،
لا لأراك ، بل لأرى بك.
يا طارق
ما بيني وبينك ليس حباً
إنه الوعي حين يكتشف جسده.
(الضوء يخفت تدريجياً ، موسيقى تتلاشى كالأنفاس)
(طارق في عتمة رمادية ، يجلس وحده)
(صوتها يأتي من بعيد كصدى في ذاكرته ، ثم يبدأ بالكلام)
طارق : سمعتُك تتكلمين ،
فأدركت أن اللغة امرأة تتنفس من حنجرتي.
كنتِ كل ما لم أقله ،
وكل ما خفت أن أعترف أنني أحتاجه.
حين نطقتِ ، ارتجف الصمت بيننا.
لم تكن كلماتك عن جسد ،
بل عن ذاكرة الكون حين كان يجرّب شكله الأول.
يا أنثى المعنى ،
هل تعلمين أنني حين أراكِ
كأني أرى الفكرة الأولى للنور
ممراً بين القلب والكون
أنّ رائحتكِ ليست عطراً ،
بل دليلاً أنني إبن الطين حين أحببت صرت سماوياً ؟
لسنا رجلاً وامرأة يا أنتِ ،
نحن فكرتان تتقابلان في لحظة خلق جديدة.
أنتِ النصف الذي يعيد ترتيب فوضاي ،
وأنا اليد التي تكتبكِ من رماد النجوم.
حين تناديني الرغبة باسمها الأول ،
أعرف أنكِ أنتِ.
ففيكِ يتوحّد الفكرُ بالحس ،
وتنصهر الرغبة في الحلم ،
ويصير الجسدُ صلاة أخرى للروح.
أنا لا أريدكِ لتكوني لي ،
بل لأتعلم من حضورك كيف أكون.
يا امرأتي
حين أستند إلى صمتك ،
أشعر أنني أعود إلى طفولة الخلق.
وحين تنظرين إلي بتلك العينين ،
أشعر أن العالم وُجد كي نكمله معاً
أنا بالوعي ، وأنتِ بالدهشة
(اللقاء بين الضوء والظل)
(صفية تقف في جهة النور ،
وطارق في جهة الظل ،
يقتربان ببطء من مركز المسرح)
صفية : أسمع خطواتك قبل أن تقترب ،
هل تعرف أن الصدى في داخلي يعرف اسمك؟
طارق : وأنا أراك في الضوء قبل أن أفتح عيني ،
كأن وجودك فكرة تسبق الرؤية.
صفية : كنت أبحث عني فيك ،
فوجدتني في صوتك ، في سكونك ،
في تلك اللحظة التي نسيت فيها الخوف.
طارق : وأنا حين لمست غيابك ،
اكتشفت أن الفراغ جسد ينتظر أن يُنادى باسمه.
صفية : أأنت جسدي أم وعيي؟
طارق : أنا ما بينهما
أنا السؤال الذي يصنع الجواب.
صفية تقترب : كنت أظن الحب امتلاكاً ،
لكنّك جعلتني أفهم أنه معرفة.
طارق : وكنت أظن الجسد صدى ،
فعلمتِني أنه الأصل.
صفية : أشعر أنني أخلق من جديد.
طارق: لأنك الآن تعرفين أن الخلق لا يبدأ من الطين ،
بل من الوعي بالجمال.
صفية : هل هذا حب ؟
طارق : بل هذا الإنسان حين يكتمل.
(الضوء الأبيض يغمرهما ، تمتزج أنفاسهما في صوت واحد)
كلاهما : نحن الدهشة الأولى بعد الغياب ،
الوعي الذي لمس نفسه ،
النور حين تذكر أن له قلباً.
صفية تغلق عينيها : أحبك لا لأنك أنت ،
بل لأنني فيك أراني كما لم أراني من قبل.
(الضوء يخفت تدريجياً ، ويبقى الصدى كتراتيل صامتة)
أنفاس تتحول إلى ناي ، ثم إلى صمت مقدّس.
في كل حب حقيقي ، يولدُ الإنسان مرة أخرى
ستار
طارق غريب



