
من رواية نبي الظلام.
المخلوق الغير مناسب في المكان المناسب؛ يدير مؤسسة حكايته بعقلانية، تكاد تصلح لتكون لبنة الإيمان الأساسية، بارّ بأهدافه للغاية، ومواظب مواظبة السرائر المثالية على ممارسة هوايته؛ كأجمل هبة نُسبت إليه، فكانت أن يستلّ رغبة بني آدم في قيامهم بالأفعال المحبّبة عند الإله، ينهاهم عن كافة العبادات والتوصيات والسلوكيات المريحة؛ ذات فائدة عليهم وعلى مجتمعاتهم، ويضع لهم بدائل؛ لقبول عرض التخلّي، عما تستهويه روحه بالأحرف والأعداد.
تترائى عصاته من بعيد، يقودها إلى الطريق بثقة تامة؛ كأنه زعيم هذا المكان، صفاته مسترخية لا تضايقها الضغوطات.. لديه بشرة تتمازج بين سمرة نقيّة وبياض مُحمرّ، إقتبس منه وجهه، إشراقة من قلب الوقار، ذو مسحة تعابير كئيبة حزينة، كأنها تحاكي فترة من ماضيه المحكم الإغلاق، عيونه تطوي الأسرار، تأوي بؤبؤٍ مقلوب، ينتمي لِـعَوَرٍ نصفي، لم يتغلّب عن مهارة بصره في تقييم جميع الصور؛ ببالغ الدقة والإحترافية.
طيف رجل وحيد بين أسوار القحولة، شبح يدكّ الرمل دكًّـا، تهابه الكثبان والآثار المطموسة.
ارتابني العجب؛ حينما وقعت عيناي، على ما يرتديه طيف المخلوق “إبليس”، ويا لحسرتي التي شاركتني التأنّي؛ في قميصه الأبيض ذو ثوب خفيف، طويل فضفاض، يغطي جميع أنحاء جسده، الذي لا يبرز منه سوى اليدين والقدمين الحافيتين…
عبد معتق الروح، مغرم بالعزلة، يسير في أمان مع ضغينته، هائم وسط القفر والخلاء، تارة يهرول برفقة الخشوع وتارة أخرى يتريّث بجنب الجفاف، يسلك سبل القحط والخواء، في صحراء هائلة مجرّدة من الأصوات إلا نبرة الرياح؛ وجد ضالّته في غياب وسائل الراحة، بإعتبارها شهوة يجب تفاديها، وملتهى؛ سيجرّه لخيانة وظيفته المخلصة.
يأتي المولي فردًا والذي يستغني به عن الدنيا وملذاتها وشؤونها المفرغة من حسّ الطاعة، والتي تؤثّر عن التشبّث بالقسم السماوي الرهيبة، طقوس تنسّكه وغفرانه.
شبح إبليس ترك الدنيا خلفه من أجل الإله، وها هو ذا يحبّذ الروحانية ومُصرّ على أن يسكن القفار وحيدا للأبد، بدل أن يصاحب المادّيات.
هل هذه دعوة مني على هيئة الاِستكشاف؛ لمصاحبة طيف إبليس؟
لماذا وضعه القدر في طريق رحلتي؛ إن لم يكن هنالك ما يستوجب معرفته عن هذا المخلوق، الذي أدبر عن متاع الدنيا؟؟!؟
اخترت اليوم؛ أن أرافق إبليس في رحلته إلى العزلة، دون محاذاته وأنقّب عن سبب ظهوره، بغير ما يبدو عليه عند الإنس وأنبئكم بكل أسراره؛ حتى أسترق جملة من متاحفه وعجائب شخصه، مَكثّت بمقربة من إهماله؛ لما يحيط به وتركيزه على ما في ذهنه، فعلمت عن تعاليمه التي يقدّسها، بينه وبين نفسه، ما لا يمكن لعاقل توقعه …؟؟!
فمثلا؟ لا يكاد يتنفّس حتى يقدّس لربّه ويسبِّح له، يتحلّى بذكره بكرة وعشية، يتمتم بكلمات الحمد والشكر والإمتنان.
هذا إبليس يتعوّذ من أي شيء سيشغله عن الإله، بالرغم من تواجده في عمق الصحراء الخالي والمنكوب، المحظورة قبائله، لم يفكر ولو لوهلة في أن يجلب معه مستقبِلات الشهوة أو الأنس، تلك الأمور بالنسبة له؛ معصية ومضيعة للجهد والطاقة وإفشال لمُضيّه في درب التعبّد والإبتهال.
طوال الوقت؛ وهو ينظر لتصرّفات البشرية وبعض قوانينهم، مثل مكافحة الوقوع في الرذيلة بإصطحاب الزوجة، التي يعتبر التقرّب منها؛ أمر مشروع لم يُقنع المخلوق إبليس؛ وأن التحصُّن من الإصطدام بالخطيئة؛ لا يعني ممارستها بالشكل الحلال بين كل اِستراحات التعبّد، حيث أن مقاطعة ذلك نهائيا هو المطلوب؛ لضمان عدم إثارة الشهوة، ما دام إختيار اللجوء لمكان ما؛ من أجل العبادة، فلا يحقّ لغير العبادة، أن ترافق خطوات العابد، لينغمس بها وتنغمس به، إلى أن تتّسع فيه وتأخذه حيزًا لها؛ كجزء لن يتجزّأ منه أبدًا.
يشتّت انتباه الناس ويشغلهم عن التأمّل في الكون بكل الطرق، لا يترك لهم المجال الكافي؛ لتحسّس نقاط الطاقة المخفية، والتروّي من قيمتها وبلورة موجات تردّدها إلى لغة مفهومة، لترتيب موعد ناجح؛ للتواصل مع علومها بتقنية مباشرة.
يغطي عنهم آثار النجاة من مهزلة محدودية الدّنيا، يتهجّم بوساوسه على قراراتهم وآرائهم الداخلية، حتى لا تخرج للعلن.
فهو بذلك؛ يهدّد ظهور العقول المفكّرة، ذات التجربة والباحثة في قوانين العلم السماوي، يناصر احتكار أفكار البشرية في زاوية ضيّقة، وإذلالها داخل سجنه المُحبِط؛ لأي طموح يسعى للتعديل والإصلاح.
كل هذا العمل الجبّار يقوم به، من أجل أن تترك الناس درب الخالق، فيمكثون في الضعف والخوف والخطيئة وما جاورهم من ضياع ومُبطِلات للإيمان.
في المقابل؛ إن المخلوق إبليس يحرز التقدّم الكبير نحو الإمساك بزمام التقوى، إبتغاء مرضاة مراده وطمعه في أن يكون ملكًا على الكون، يريد أن يصبح هو الإله، غروره الفائق يقنعه بالأحقّية ويعزّز حلول موسم نظرياته، التي تصبّ في مركز الاِستيلاء على رتبة المنطق؛
هل سيخدِّر أعصاب المجتمع بما يحمله من بحوث تدَبُّرية؟!
ترى؛ ما الذي يجعل من “إبليس” متمردٌ واثقٌ من شعلة هواجسه؟؟؟!



