
في كتابه الصادر حديثًا “بالأحابيل تصنع لك حرباً” أو “سيف الحرية”، يكشف رئيس الموساد السابق يوسي كوهين جانبًا من رؤيته للشرق الأوسط، ويضع مصر في قلب المشهد باعتبارها وفق تعبيره “الدولة التي تحدد هندسة المنطقة”.
وربما لأول مرة يظهر بشكل واضح مدى إدراك دوائر القرار في تل أبيب لوزن مصر وحجم تأثيرها على أي مشروع أو سيناريو إقليمي.
يرى كوهين أن التعامل مع مصر مختلف عن أي دولة أخرى في المنطقة ، فهي ليست مجرد طرف يمكن احتواؤه أو الضغط عليه، بل دولة محورية تُعيد تشكيل ميزان القوى في الشرق الأوسط وفي أكثر من موضع يلمح إلى أن نجاح أو فشل أي مشروع إسرائيلي يتوقف على الموقف المصري، خاصة في الملفات الأمنية والإقليمية الحساسة.
هذه اللغة التي تبدو غير معتادة في مذكرات مسؤول استخبارات إسرائيلي تعكس إدراكًا واضحًا بأن قدرة إسرائيل على هندسة الإقليم ليست مطلقة، وأن ثقل القاهرة يمثل حدًا واضحًا لأي محاولة لإعادة رسم خرائط النفوذ.
خطة تهجير الفلسطينيين.. والرفض المصري القاطع.
أكثر الفصول إثارة في الكتاب هو اعتراف كوهين بأنه شارك في إعداد خطة بعد 7 أكتوبر 2023 لتهجير نحو 1.5 مليون فلسطيني من قطاع غزة إلى شمال سيناء بحجة “تخفيف الخسائر المدنية”.
ويزعم أن الخطة عُرضت على قادة غربيين وحاول تسويقها دوليًا ، لكن العامل الذي أسقط الخطة بالكامل بحسب كوهين نفسه كان رفض مصر بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، رفضًا نهائيًا غير قابل للنقاش وهو اعتراف نادر من مسؤول إسرائيلي رفيع بأن القاهرة كانت “العقدة الحاسمة” التي أوقفت أخطر مشروع ديموغرافي في تاريخ الصراع.
ويحاول كوهين تقديم الخطة بصيغة “إنسانية” أو “مؤقتة”، بينما تظهر تفاصيل الكتاب أنها كانت تهدف لتغيير الواقع الجغرافي والديموغرافي في القطاع، وهو ما رفضته مصر حفاظًا على الأمن القومي وثوابت القضية الفلسطينية.
يعرض كوهين في كتابه ما يعتبره “نجاحات” للموساد، مثل سرقة الأرشيف النووي الإيراني وعمليات اغتيال محددة، لكنه يعترف أن فشل الاستخبارات الإسرائيلية في توقع أو منع هجوم 7 أكتوبر يكشف اعتمادًا مفرطًا على التكنولوجيا، وإهمال العنصر البشري والمصادر الميدانية.
وينتقد الثقافة الداخلية للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، التي وصفها بأنها غرقت في ثقة زائدة جعلتها تتجاهل مؤشرات عديدة سبقت الهجوم.
يبدو أن الكتاب ليس مجرد مذكرات شخصية، بل محاولة لإعادة صياغة سردية سياسية واستراتيجية: التأكيد على أن إسرائيل لا تستطيع رسم مستقبل الإقليم بمعزل عن مصر.
الإيحاء بأن المشاريع الإسرائيلية مهما كانت جريئة تنهار أمام الرفض المصري.
تقديم نفسه كلاعب رئيسي في “الهندسة الإقليمية” ومحاولة تبرئة الموساد من مسؤوليات العجز الاستخباراتي.
كما يقدم الكتاب رسالة ضمنية مفادها أن القاهرة تبقى حجر الأساس في أي عملية سياسية أو أمنية في الشرق الأوسط، وأن تجاوزها مستحيل، كما ظهر في رفضها القاطع لمخطط التهجير.
مصر ليست مجرد دولة مهمة في حسابات تل أبيب، بل هي العامل الأكثر تأثيرًا في تحديد حدود الحركة الإسرائيلية.
ومن خلال اعترافات كوهين، يظهر أن القاهرة رغم كل الضغوط حافظت على ثوابتها تجاه القضية الفلسطينية، وأسقطت أخطر مشروع تهجير منذ نكبة 1948.



